مقالات

التاريخ يعيد نفسه في غزة

في زمن الكوارث والبؤس الإنساني يعيش الإنسان ممزقا بين جملة من المخاوف التي حولت حياته إلى جحيم من التوقع بالسقوط في أي لحظة بمأزق جديد أكثر رعبا من سابقه مما يجعله يعاني من انفصام مروع بين ما يأمله وبين ما يعيشه جراء ما تنتجه الصراعات النفسية التي يعانيها ومن جراء كل تلك المتناقضات التي تحيط به … كل إنسان في هذا العالم يحلم بأن يعيش حرا تخلو حياته من الضغوط والتوترات النفسية والاقتصادية التي تزيد من معاناته ويزداد الأمر مأساوية عندما يصبح الحصول على رغيف الخبز مهمة شاقة وصعبة المنال لا يحصل عليه إلا إذا تقطعت انفاسه وأرهق جسده وهو ما يزج به في نفق من المكابدة اليومية ويدخله في نطاق ألم نفسي لا توجد به ومضة من أمل … إن ما يحدث للإنسان المعاصر الآن عكس ما يحلم به ومتناقضا مع ما يتمناه عندما وجد نفسه في دائرة مغلقة يسقط فيها ملايين الضحايا الأبرياء دون أن يرف جفن الساسة الذين يشعلون نار هذا الصراع المدمر وابقائه مستعرا على الدوام … فما أن يظن إنسان اليوم إنه تجاوز هذه الأزمة حتى يسقط بأخرى أشد فضاعه وأكثر عذابا من سابقتها … متسببة في خسائر بشرية ومادية فادحة وتترك في مسار التاريخ ندوبا وجراح غائرة عصية على الشفاء ما زالت الذاكرة الإنسانية لم تستوعب حتى الآن عدد القتلى والدمار الهائل الذي أصاب مدن العالم نتيجة للحرب العالمية الثانية التي سجلت من ضمن أحداثها الأليمة إسقاط القنبلة الذرية على مدينة هيروشيما اليابانية يوم 6 اغسطس عام 1945 والذي ما زالت حتى أجيال اليوم بالمدينة المنكوبة تدفع فاتورة تداعياته رغم مرور أكثر من سبعة عقود عليها … وها هو التاريخ يعيد نفسه في غزة الآن فالذي يدفع الثمن الآن البسطاء من الأطفال والشيوخ والنساء نتيجة عدو استيطاني سلب شعبا بكامله أرضه واحلامه وآماله وحول غزة إلى سجن ومعتقل جماعي ترتكب فيه أكثر الجرائم فظاعة .عدو متجرد من كل المشاعر الإنسانية يستخدم ما بحوزته من اسلحة دمار ضد قطاع يعتبر من أكثر المناطق اكتظاظا بالسكان في العالم إذ يعيش بغزة (2,2) مليون نسمة في مساحة محدودة لا تزيد عن (365) كيلومتر مربع ويتوزعون على (44) تجمعا سكانيا وإذا أخذنا في الاعتبار إن ما يقرب من نصف سكان غزة إي نسبة (% 47,3) أعمارهم تحت سن الثامنة عشر إذن إن عدد الضحايا من جراء القصف المتواصل والوحشي سيكون من هذه الشريحة السنية التي ما زالت في طور الطفولة … كما إن الوضع الاقتصادي المنكوب اليوم بحرب عنصرية شعواء ونتيجة للحصار وحالة العزلة التي يعيشها القطاع وسيطرة الكيان الصهيوني على المعابر من وإلى غزة الأمر الذي جعل الوضع الاقتصادي لأهل غزة يتسم بالصعوبة حتى قبل السابع من اكتوبرإذ كانت (% 77) من الأسر تتلقى مساعدات نقدية أو غذائية وأصبح الوضع أكثر كارثية خلال هذا الغزو … فيما وصلت البطالة وفق الاحصائيات الرسمية إلى (% 46) وهذه النسبة تحولت الآن ونتيجة للأوضاع السائدة إلى (% 100) كل ذلك يحدث نتيجة إن شعبا يسعى لأن يعيش بحرية فوق أرض اجداده واستعادة ما سلب منها قهرا وظلما ويدفع الآن فاتورة التحرر الوطني ليصل عدد الشهداء لأكثر من خمسين ألف شهيد .. وعدد الجرحى يتجاوز هذا العدد بالكثير .. هذا الوضع الذي تنامت فيه حالة البؤس الانساني كل حد .. ففي القرن الواحد والعشرين وأمام كل ما شهده العالم من تطور حضاري يضطر سكان قطاع غزة إلا أكل الأعشاب لسد حاجة الجوع المخيفة التي يعاني منها الأطفال ضعف ما يعانيه الكبار .. هل يمكن لنا ونحن نستعرض حقيقة الوضع في غزة أن نصدق إن العالم ما زال لديه قيم يقدرها أو اخلاق يلتزم بها طالما إنه عاجز عن ردع الظالم ونصرة المظلوم …؟ ولكن كيف لنا أن نلوم العالم الآخر والعرب الذين ينتمي إليهم قطاع غزة يقفون موقف المتفرج وكأن هؤلاء الأطفال والشيوخ والنساء من عرق آخر لا تربطه بهم رابطة الدم واللغة والدين والتاريخ المشترك والمصير الواحد .. إن حالة الضعف العربي ليست بسبب الإمكانيات ولكن نتيجة لتخاذل القادة العرب وانشغال الجميع عن ما يحدث في غزة بشؤونهم الخاصة وأوضاعهم الإقليمية الضيقة نتيجة لتراجع المد القومي إلى حده الأدنى وعمالة الأنظمة العربية وهرولت البعض منها في اتجاه التطبيع مع العدو .. كل الدول العربية تعجز الآن عن إدخال شاحنة محملة بالغذاء أو الدواء إلا بالموافقة الصهيونية التي تتزامن معها العراقيل ويرافقها والاستفزاز الذي لا يحتمل ولا يطاق .. إضافة إلى لا مبالات الشارع العربي وحالة البلادة التي يتعامل بها مع أحداث غزة .. أمام كل ذلك أردد بهمس عميق مقولة العالم المصري الراحل احمد زويل (إن التاريخ لن يغفر لهذا الجيل أن يترك الأمة العربية في حالها الراهن) .. إن أقسى ما تتعرض له أي أمة هو لعنة التاريخ وإدانته والتي ستبقى وصمة عار على جبين زمن فقد فيه العرب قدرتهم على حماية أطفالهم ونسائهم .

● عبدالله مسعود ارحومة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى