مقالات

جذرر (2)

الأصول والهوية لقدماء الليبيين

ذكرنا في العدد الماضي الخط الذي أقيمت فيه حضارات قدماء الليبيين في الجبال والكهوف الساحلية والجنوبية وزمن تواجدهم فيها. ونذكر الآن العلاقة بينهم وبين أصحاب الحضارات المجاورة لهم: المتتبع لتلك الحركة السكانية يجد أنها كانت تنطلق في الغالب من جهة الشرق إلى جهة الغرب . والشيء الذي يؤيد هذا الرأي وجود سمات حضارية مشتركة بين صناعات هذه الكهوف وصناعات الحضارة الفلسطينية. كما تشترك أيضاً مع صناعات منطقة الفيوم بمصر . أما عن بقايا الهياكل العظمية فهي الأخرى تؤكد تلك الصلة الشرقية. ويقول الناضوري في هذا الخصوص : ” وكل ذلك يؤكد وجود صلات حضارية وبشرية بين جنوب غربي آسيا وبصفة خاصة منطقة فلسطين وبين المغرب وبصفة خاصة منطقة شمال شرقي ليبيا أي برقة في ذلك الوقت”. وهذا يشير إلى أن الهجرة القديمة كانت هكذا : من فلسطين فمصر فليبيا فتونس فالجزائر فالمغرب فموريتانيا فجزر الكناري . وهذا بدوره يرتب الصلة بين كل أصحاب تلك الحضارات ويوثقها . غير أن الحضارة العترية (القفصية) كُتب لها الشيوع في ربوع غرب ليبيا الحالية، تمشياً مع أسلوب الهجرات العكسية الذي كان سائداً وقتذاك. إلى حد الآن لم يتجرأ أحد من المؤرخين ويسمي هذه الأقوام بأسماء معينة. فكل ما استطاعوا قوله هو إثبات أصلهم الشرقي (الفلسطيني) أي (الكنعاني) بحكم دراسة الهياكل العظمية المكتشفة، وانتماء الواحد منهم إلى الآخر بحكم دراسة المخلفات الصناعية التي كانت مستعملة. ثم أطلقوا على حضاراتهم أسماءً بحكم أسماء الأماكن والكهوف التي شغلوها، فقالوا: الحضارة البرقاوية والحضارة العترية والحضارة الوهرانية والحضارة الرحمانية .. ولكن كيف ومتى عُرف سكان تلك الأماكن ب”الليبيين”؟ اختلف الدارسون في سبب تسمية ليبيا وسكانها الليبيين بهذا الاسم . فمنهم من أرجع ذلك إلى كتب العهد القديم التي ذكرت علاقة العرق أو الأخوّة بين كل من (فلشتيم) وهو جد الفلسطينيين، و(مصراييم) وهو جد المصريين، و(لوبييم) وهو جد الليبيين. وهذا الإسم الأخير ذُكر بعدة صيغ، مثل: (لوهابيم) و (لهابيم).. والمعروف عن اللغات العروبية الأولى التي من بينها اللهجة العبرية تستعمل التمييم (يم) بدل التنوين (ين) المعروفة الآن في اللغة العربية والتي كانت تفيد أحياناً الجمع. وهذا يعني أن هذه الأسماء هي أسماء أقوام وليست أسماء أشخاص معيّنين. وقد ورد في أسفار اليهود أيضا ذكرٌ لليبيين عندما فتح الفرعون الليبي/المصري (شيشنق) بيت المقدس وأخضع فلسطين والشام لحكمه. أما النقوش المصرية فقد كانت تذكر كل القبائل الواقعة غرب النيل بأسمائها أحيانا، مثل (التحنو أو التحمو والريبو أو الليبو) .. وتسميهم جميعا أحيانا أخرى باسم (إمنت أو يمنت)، وهو لفظ اتضح بعد شرحه أنه يعني (اليمين) بحكم وجود الليبيين على يمين النيل عندما يقف المصري القديم قبالة الشمس بعد شروقها، فتأتي ليبيا على يمينه. والمعروف أن كثيراً من العلوم المصرية القديمة برزت بفضل اهتمامهم بحركة جريان النيل ومواسم انحساره وفيضانه وكافة تصرفاته، كذلك دراسة الإتجاهات. ومن المعلوم أيضاً أن الصحراء التي تلي النيل من جهة الغرب كانت تسمى في الخرائط الحديثة )الصحراء الليبية( ثم تغيرت – لاعتبارات ربما تكون سياسية- إلى (الصحراء الغربية). هكذا وُجدت أسماء القبائل الليبية في النقوش المصرية القديمة، إلى أن بدأوا يُعرفون ب(الليبيين) ربما كان ذلك مشتقاً من أكبر القبائل التي كانت لها تفاعلات على نحو ما مع جيرانهم المصريين، وهي قبيلة (الليبو) أو (الريبو) لأن حرفي الراء واللام يتعاقبان في اللغة المصرية القديمة. وعندما جاء المؤرخون الإغريق إلى ليبيا زمن دولة (قورينا) ومن أشهرهم (هيرودوت) اعتمدوا في تاريخهم إسم (ليبيا) و(الليبيين) في مواقع كثيرة ضمن كتاباتهم التي وصفوا فيها هذه المنطقة وأهلها. ولم يخصصوا هذا الإسم فقط للمنطقة الشرقية التي تشغلها القبائل المذكورة آنفا، وإنما وسّعوه ليشمل كل القبائل الأخرى البعيدة عن (قورينا) بما في ذلك قبائل (الحرمنت) التي كانت تسيطر على الخط الصحراوي بين جبل العوينات شرقاً وجبال تاسيلي غرباً. وهي الجبال التي وجدت فيها كهوف من سبقهم من أقوام إبان العصور الحجرية الأولى. تلك القبائل الليبية التي نبذ أجدادها الكهوف وخرجوا إلى العراء، وامتهنوا أنواعاً مختلفة من الأنشطة الحياتية، سواء أكانوا من سكان الشمال أو من سكان الجنوب، لا بد أن يكونوا من سلالة ساكني الكهوف الأوائل. أو ربما اختلطت بهم أقوام أخرى جاءت مهاجرة عبر برزخ السويس من جهة الشمال (الجهة البحرية)، وعبر باب المندب من جهة الجنوب (الجهة القبلية). علاوة على الاختلاط الدائم الذي حصل بينهم وبين جيرانهم المصريين. وحتى هؤلاء الجيران لم يكونوا غرباء عنهم. فقد ذكر المؤرخون أنه عندما زحف التصحر على المنطقة الجنوبية من ليبيا، هاجر أهلها إلى الشرق وسكنوا الصعيد ثم الدلتا. واختلطوا مع من هاجر من وسط الجزيرة العربية بعدما تصحرت هي الأخرى، وشكل جميعهم نواة السلالات المصرية الأولى، التي قام الفرعون (نعرمر) بتوحيدهم فيما بعد. وقد شهدت المدة الواقعة بين الألف الأول قبل الميلاد وبداية الألف الأول بعده، حركة تاريخية وسكانية وحضارية شديدة التنوع، لم تشهد المنطقة مثيلا لها في السابق. ففي تلك الفترة كان الجرمانتيون يحرسون صحراءهم ويذودون عنها، وكان التحنويون مشغولون باصطياد الفرصة للإستلاء على حكم مصر، حتى تمكنوا منه أخيرا بقيادة (التحنو والمشواش). وكان الفينيقيون يجوبون سواحل حوض البحر المتوسط، حتى استقروا أخيرا في تونس، وبنوا فيها مدينتهم الجديدة (قرطاج). وكان البدو من سكان (نوميديا) بالجزائر، والمورتانيون بين المغرب وموريتانيا الحاليتين، يلتفون حول زعمائهم (أغاليدهم)، في محاولة منهم لتقوية شوكتهم أمام ما ينتظرهم من تحديات. وكان الإغريق يبنون مدينتهم في الجبل الأخضر (بليبيا حاليا) ويوسعونها بإنشاء الموانئ والمرافق المكملة لها. وكان العرب من اليمن يتوافدون على الشمال الأفريقي زرافات زرافات على هيئة قبائل شتى. وكان الرومان المزاحم الرئيسي للإغريق يتحين الفرص لابتلاع الأرض والقضاء على قرطاج وبناة حضارتها من الليبونيقيين. ثم جاء (الوندال) عبر مضيق جبل طارق ليلقي بثقله في خضم الأحداث، ويخرب ما عن له تخريبه.. في تلك الأثناء عرفت بلاد الشمال الأفريقي التي اصطلح على تسميتها ب)ليبيا( كثيراً من الأحداث والصراعات والحروب. كما شهدت كثيراً من المعالم الحضارية على كافة الأصعدة، خصوصاً مجالات الزراعة، فغُرست أشجار الزيتون والنخيل، وأقيمت معاصر الزيتون ومطاحن الحبوب. وعُرف الجمل والحصان واستعملا خير استعمال. وتم استطلاع العديد من الأماكن عن طريق الرحلات البحرية التي عرف بها المغامرون البونيقيون.. وغيرها من الخصال التي سجلها التاريخ لقدماء الليبيين بعد اختلاطهم بإخوانهم الفينيقيين أصحاب الحضارة الراقية، فنبذوا الترحال والبداوة واستقروا وتحضروا. أما الإغريق والرومان والوندال فلم يبق لهم أي أثر يذكر في ليبيا، إذ عاد معظمهم من حيث أتى، وأما الفينيقيون واليمنيون وكل القادمين من الشرق، فقد اختلطوا مع إخوانهم الليبيين الأوائل وصاهروهم. فاندمجت دماؤهم، وانصهر جميعهم في بوتقة المجتمع الليبي الجديد، إلى أن جاء الإسلام، فزاد من وحدتهم وتماسكهم . إلى اللقاء.

■ د. عبد العزيز سعيد الصويعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى