مقالات

حضارة الكهوف الليبية

(من ليبيا يأتي الجديد)، هذه المقولة الشهيرة قالها (أرسطو) وكان يقصد بها بعض الحيوانات الغريبة التي لم يألفها الإغريق في جبالهم. ولكن الإغريق عموماً لم يتوقفوا عن ترديد مثل تلك المقولة كلما صادفوا غريباً وجديداً في ليبيا. والإجابة عن (لماذا كان الإغريق دائماً معجبين بكل ما يصادفونه في ليبيا من نفائس ودرر) قد تكون عسيرةً وشاقةً على النفس، لما تحتاجه من معاناة وصعوبة في البحث والتقصي. ولكننا قد نلتمس الطريق المناسب لذلك إذا تتبعنا ما قاله أولئك المؤرخون الإغريق عند زيارتهم إلى ليبيا، وما نقلوه من أخبار عن سكانها قدماء الليبيين وحياتهم وعاداتهم وتصرفاتهم، ونشاطاتهم اليومية، فكتبوا عنهم ما كتبوا. قد يكتنف تاريخ ليبيا القديم غموضا عميقا، ويعتريه نقص كثير، وتتخلله نقط استفهام لا تحصى، خصوصاً فيما يتعلق بأصول سكانها القدامى ومصدر انبعاثهم الأول. ولكن المتتبع لحركة التاريخ – تاريخ البشرية عموماً- سيجد لهؤلاء القوم موقعاً مناسباً لهم بين مواقع الأقوام الأخرى التي جاورتهم وتفاعلت معهم حضارياً وثقافياً وقاسمتهم الأرض جغرافياً ومعيشياً. فهم –بطبيعة الحال- جزء من تلك الحركة وذاك التفاعل، وركيزة من ركائزه الأساسية.. ولكن مثل هذا البحث والتقصي لا يمكنه أن يبلغ غايته ما لم يحدد عاملا الزمان والمكان المتعلقان بتاريخ هذا القوم وموطنهم.أولا = الزمان : لا يمكننا في هذا المقام أن نغوص في عمق الأساطير التي نُسجت حول ليبيا القديمة جداً، أو نتوه في مسارب التاريخ المتشعبة التي لم يحسن الخوضَ فيها كثيرٌ من المؤرخين والجيولوجيين والأنثروبولوجيين وغيرهم ممن عني بتاريخ الإنسان القديم. ولا يمكننا أيضاً أن نسمح لخيالنا أن يمتد طويلاً لمعرفة أصل الإنسان الأول والجزم بأن “الإنسان النيندرتالي” و”الإنسان العاقل” هل تناسلا من بعضهما البعض أم أنهما منفصلان، وما علاقتهما ب”إنسان بكين” أو “الإنسان الأسترالي القديم”، ونورط أنفسنا في ملايين السنين؛ لأن التاريخ الموثق والموثوق فيه والأكثر وضوحاً والأقل تورطاً لا يتعدى الخمسة آلاف سنة، أو قبلها بقليل. وذلك يعود لعدة أسباب، أهمها ظهور الكتابة التي تقلّبت على عدة أطوار ثم ترسّخت حروفا رمزية بعدما كانت رسوما ومخربشات قد لا تتحلل إلى كلام.. وقد سمي عصر الكتابة والتدوين ب”عصر التاريخ”؛ أي أن التاريخ بدأ في العد رسمياً منذ ذاك العصر. يقول )توينبي( في هذا الخصوص : ” وهكذا فإن معلوماتنا عن الخمسة آلاف السنة الماضية من التاريخ –الخمسة آلاف السنة الموثقة- هي أغزر وأشد وضوحاً منها من المليون الأول أو نصف المليون الأول من السنين التي تلت فجر الوعي الذي يحتمل حدوثه” ]تاريخ البشرية، ص 27[. وبناءً على ذلك فإن العصر الحجري الحديث الذي سُجلت مخلفاته في كهوف الشمال الأفريقي يعود إلى حدود الألف الخامس قبل الميلاد، أي مرحلة الاستقرار النسبي وامتهان الرعي والزراعة، بعد مرحلة الاصطياد والالتقاط. حيث أوجد الإنسانُ وقتذاك وسائل تحقق له رغباته، فاستخدم الحجر الذي يعتبر أقدم مادة صنعت منها الأدوات الأولى، ثم تحول إلى عجن الطين صانعاً منه بعض الأواني المساعدة على تخزين المؤن والمياه. هذا في المناطق الشمالية (الساحلية)، أما في المناطق الجنوبية (الصحراوية) فكانت أبرز المعالم الأثرية الدالة على حضور الإنسان هناك، تلك الرسوم الصخرية التي اكتشفت بأعداد كبيرة تعد بالآلاف، والتي قُدّر زمنها بزمن ما بين الألف السادس والألف الرابع السابقين لميلاد المسيح عليه السلام. فإذا كانت الحضارة الكهفية الساحلية اعتمدت على الأدوات الحجرية ثم انتقلت إلى صناعة الأواني الفخارية بعد الاستقرار النسبي، فإن الحضارة الكهفية الصحراوية اختلفت عنها من حيث المقومات المعيشية. لأن البيئة والمناخ والتضاريس الأرضية لها دورها الفاعل في تشكل حياة الإنسان، مما ينعكس على سمات الحضارة وتحديد خصوصيتها. ومن خلال تلك الرسوم التي تركها سكان جبال أكاكوس يتضح أن رسّاميها كانوا ينعمون بحياة مرفّهة ومنعّمة، على أرض دائمة الخضرة والخصوبة، وتحت سماء دائمة المطر والرطوبة، تجري في أوديتهم المياه، ثم تتجمع في برك ومستنقعات وبحيرات تتيح للإنسان والحيوان حياةً هانئة، وأشهر حضارة وُجدت رسومها منقوشة على جدران الكهوف هناك، حضارة (وادي جبّارين) التي حدد مكتشفها الفرنسي (هنري لوت) زمن بعض محتوياتها بزمن ما قبل تأسيس الأسرات المصرية ]من كتابه: لوحات تسيلي[، أي قبل الألف الرابع قبل الميلاد، وهي الفترة التي ازدهرت فيها الحياة في تلك المنطقة قبل أن تزحف عليها الرمال وتتصحر، وقد حصل ذاك التصحر بفعل التغيير المناخي الذي تزامن مع ذاك الذي حصل في الصحراء العربية، فهاجر الليبيون نحو الشمال الشرقي، واستقروا على ضفاف النيل، وقد ذكر الدكتور خشيم أن الليبيين سكنوا الدلتا سنة 3200 قبل الميلاد ]من كتابه: آلهة مصر العربية، ص 51[. والتقوا مع أبناء عمومتهم المهاجرين مما يُعرف اليوم ب”شبه الجزيرة العربية” هروباً من نفس العوامل المناخية التي ابتليت بها منطقتهم أيضاً.ثانيا = المكان : الزمن المتحدث عنه الآن سابق لزمن القبائل الليبية المعروفة، مثل: الليبو والتحنو والمشواش بشرق ليبيا الحالية والنساميون بوسطها والجرمنتيون بجنوبها، والقرطاجنيون أو الليبونيقيون بشمال تونس، والقبائل النوميدية بشمال ووسط الجزائر، وقبائل المور بالمغرب الأقصى وموريتانيا.. تلك القبائل والأقوام التي ذكرها المؤرخون الإغريق وعلى رأسهم (هيرودوت) كانت قد اشتهرت في الفترة ما بين بداية الألف الأول قبل الميلاد ونهايته. أما صنّاع الحضارة الكهفية الحجرية فهم الأسبق، ولم يسمّهم أحدٌ بأسماء معينة.. وكل ما قيل عنهم أنهم كانوا يسكنون الجبال الشمالية والجنوبية لما يسمى الآن بشمال أفريقيا أو المغرب العربي الكبير. تعتبر نهاية العصر الحجري القديم الأعلى من أهم المراحل التي انتقل فيها الإنسان إلى مرحلة إنتاج الطعام والأسلحة الحجرية الدقيقة وولوج مرحلة العصر الحجري الحديث. وقد تمثلت تلك الحضارة في المواقع المنتشرة بمنطقة الجبل الأخضر، مثل كهف (الفتايح) قرب درنة، وحقفة (الطير) قرب بنغازي. أما في الجنوب فكانت الشواهد الحضارية ملحوظةً على طول سلاسل الجبال الممتدة من جبل (العوينات) شرقاً إلى جبال (تاسيلي) غرباً مروراً بجبال (تيبستي). وقد كانت أكثرها غزارةً وأشدها تنوعاً تلك الصخور المنقوشة المكتشفة بجبال (أكاكوس) الواقعة ضمن سلسلة جبال (تاسيلي) شمال شرقي منطقة الحجار (الهجار) الأفريقية.إذن، إن الحضارة الليبية الأولى كانت حضارةً حجريةً كهفيةً بدائيةً، أخذت في التطور والرقي بحسب التكاثر السكاني، وازدياد الحاجة لاكتشاف سبل أرقى للحياة، والتفاعل مع الطبيعة وقهر قسوتها من أجل البقاء والحفاظ على النوع .. وبالتالي فهي حضارة الخوف من العراء وما تفعل فيه الطبيعة من كوارث، وعدم اطمئنان السكان لجيرانهم الحيوانات المتوحشة وما تسببه لهم من إزعاج.. فالتجأوا إلى الكهوف وأقاموا فيها حضارتهم، وتركوا لنا على جدرانها آثارهم، كأن لسان حالهم يقول: (نحن كنا هنا) إلى اللقاء.

■ د. عبد العزيز سعيد الصويعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى