غالبًا ماكنت أتصور الأهمية القصوى والقوة البحثية للمدرسة التأويلية النوعية في إجراء بحوث الإعلام، وأرى أنها تتفوق بمراحل على المدرسة الأمريقية الكمية في كونها تصل إلى نتائج معمقة وقوية في البحث العلمي ليست كتلك التي تنتهي إليها كل الدراسات الوضعية التي لا يمكن أن تصل في نتائجها إلا إلى المحتوى الظاهر الذي يحول الأرقام والإحصاءات إلى نتائج دون الغوص في التفاصيل والتأويلات .. هذا التصور قد تبدد عندما اكتشفت التاريخ الطويل لسيطرة مدرسة شيكاغو على فلسفة علوم الإعلام وهيمنتها على مدرسة فرانكفورت النقدية على مدار تجاوز المائة عام، وسهولة التعاطي الإيجابي مع هذه المدرسة من كل الباحثين، بزعم أن جل دراسات الإعلام وبنسبة تصل إلى 80 % تقريبا هي أبحاث إمبريقية ولا يخوض أنصار المدرسة النقدية الكيفية فيها إلا ما نسبته 20 % من تجارب البحوث رغم عمق النتائج المفسرة التي تصل إليها البحوث النقدية التأويلية، هذه النسبة دولية تقرها كل الجامعات والمراكز البحثية رغم التوجه القوي لتبني المدرسة النقدية في بحوث الإعلام في العقدين الأخيرين .. لكن أتكلم على الأقل منذ سطوع نجم مدرسة الاتصال الجماهيري لبحوث للإعلام أربعينات القرن الماضي وسيطرة مدرسة الاتصال التفاعلي تسعينات القرن الماضي واستخدام المداخل النظرية في الدراسات الإعلامية التي منها مدخل التأثيرات ومدخل الممارسات المهنية ومدخل الإعلام الجديد والمدخل الوظيفي والنقدي وإن كان المدخلان الأخيران يختصان بالمدرسة العقلية النقدية، وبالتالي انعكاس المذاهب الفلسفية على مداخل تلك النظريات وفي مقدمتها مذهب السلطة ومذهب الاشتراكية والحرية والمسؤولية الاجتماعية، وعلى فكرة فإن مدخل التأثيرات يكاد يكون أقوى المداخل التي تعتمد عليه بحوث الكم الامبريقية في العملية البحثية التى تنطلق من فلسفة ماذا تفعل وسائل الإعلام بالجمهور؟ سواء في نظريات الجمهور السلبي التي اخترعها “هارد لازويل” عقب الحرب العالمية الأولى بإضافة الوسيلة والتأثير لعناصر العملية الاتصالية والتي سادت فيها نظرية الحقنة تحت الجلد والمثير والاستجابة كأحد نظريات التأثير القوي والمباشر لوسائل الإعلام إلى نظريات التأثير الإيجابي التى خرجت بعد تشفيرات “شانون وويفر” أعقاب الحرب العالمية الثانية والذي اضاف عنصر التشويش للعملية الاتصالية وتسيدت نظرية الأفكار المستحدثة، وعلى مرحلتين أو ما يعرف بنظرية الوسطاء كأحد أهم نظريات التأثير المحدود؛ ثم جاءت نظريات الجمهور التفاعلي ونموذج “روس” الذي أضاف رجع الصدى والموقف الاتصالي للعملية الاتصالية والعودة مرة أخرى للتأثير القوي لوسائل الإعلام والتى منها نظرية وضع الأجندة والغرس الثقافي وفجوة المعرفة، وبعد هذه المرحلة وإضافة عنصر رجع الصدى تغيرت خارطة الاتصال بعد أن كان يطلق عليها مرحلة الفعل الاتصالي أحادية الاتجاه والجمهور السلبي إلى مرحلة العملية الاتصالية ثنائية الاتجاه والجمهور الإيجابي؛ ثم التفاعلي. عبر كل هذه السنوات كانت السيطرة مطلقة لبحوث الكم، وترجح أغلب التفسيرات لسواد مدرسة الكم على الكيف إلى العوامل المادية المالية التي تطلبها البحوث العقلية في مواجهة البحوث الوضعية كما أن هناك أسباب أخرى لا تحضرني .
■ د: عادل المزوغي