أيها الإنسان .. البيئة !
راج عندنا في الثقافة الليبية في فترة ما ليست بعيدة مصطلح “هذا إنسان بيئة” في مقام قدح وذم وازدراء، وفي إشارة صريحة إلى انتماء ذلك الشخص إلى بيئة متخلفة معطوبة أو سيئة ورديئة، ورغم أن هذا المصطلح الوصفي تراجع استخدامه قليلا لكنه مازال نشطا في الذاكرة الجمعية كنوع من التخلف والانحدار الذي يوسم به الموصوف . وفيما ينصرف الذهن مباشرة عند الكلام عن البيئة إلى البنى المادية للمكان مثل الطرقات والعمائر والميادين والحدائق والمرافق المختلفة من مدارس ومستشفيات ومراكز خدمية وإدارية ومزارع ومصانع ومحطات، إلا ان البيئة لها أبعاد معنوية مختلفة كالبيئة الاجتماعية والفكرية والدينية والنفسية والمهنية التي تحيط بالإنسان وتستغرقه وتسيطر عليه وتتحكم في توجيهه . ولكي يكون لكلامنا هذا أكثر من معنى فإنني سأجلي شيئا مهما عن ثقافة المكان، عن ثقافة البيئة المادية التي نراها وتشكل المجال الحيوي لحركتنا التي تصنع تاريخنا وحضارتنا. إن المحيط الذي يشكل المكان فيه البعد الرئيس لحياة الإنسان هو الذي يعكس ويفصح عن ماهية الساكنين فيه، ولو أننا ألقينا نظرة عشوائية على مكان ما وطلبنا من ساكنيه الاختباء والتخفي عن الأنظار، وطلبنا إلى زائر غريب عن المكان والإنسان الساكن فيه إخبارنا عن نوعية وماهية البشر الذين يعيشون فيه وطرائق تفكيرهم وأساليب حياتهم، فإنه لن يجد كبير عناء في إجابتنا إلى ما سألناه.. إن البيئة التي يحيا فيها الإنسان هي كائن حي بلا شك ولا جدال، والروح التي تسري فيه هي روح ساكنيه، وبقدر ما تكون الحالة الإحيائية والوظائف الحيوية للقاطنين في بيئة ما ..عالية وصحية بقدر ما .. وجدنا بيئة ومحيطا على مستوى عال من الأناقة والرقي والحيوية والإثارة والدهشة… فالبيئة انعكاس مباشر لسلوك الأفراد وترجمة حقيقية لمستواهم الثقافي والأخلاقي ومؤشر فعالا يمكن من خلاله التعرف على مستوى جديتهم وإيمانهم بالحياة وإخلاصهم لها. ولكي تكون لنا بيئة صحية وراقية تليق ببني الإنسان يجب التمهيد لها بتكوين وخلق إنسان يحترم طبيعة ما أودع الله بين أيدينا من شجر وحجر وتراب وماء وهواء، ويضيف إليها لمسته الإبداعية التي تحيل فضاءاتنا البيئية إلى روائع من العمائر والحدائق والبساتين والمصانع والميادين والساحات والطرقات والحقول والغابات والألوان. إن العملية التثقيفية العميقة والجادة مناط بها هذه المهمة وفقا لخطة مدروسة تنتقل من مرحلة الى أخرى حتى تؤتي ثمارها المرجوة .. ومع كل الجهود التثقيفية والتوعوية التي قد تبذل في سبيل خلق إنسان متزن وواع ومدرك وحسن المظهر وعلى درجة عالية من الانضباط والأخلاق الحميدة والمناقب النبيلة، وهي ما يبدو أنها غاية ما ترمي إليه العملية التثقيفية، لكن كل ذلك قد يضيع هباء إذا لم يتم ترجمته عمليا في محكات الواقع ومواجهة التحديات الحياتية المختلفة.. إن ثقافة العمل الجاد المنضبط والملتزم والمتقن وما يستتبعها من مواجهة حقيقية للعقبات والتحديات والعوائق هي التي ستنتج لنا بيئة نفخر ونعتز بها، وهي الاختبار الحقيقي لمدى النجاح في كل العمليات التثقيفية التمهيدية لخلق الإنسان القادر على إعادة تشكيل وصياغة الحياة من جديد كلما تعرضت للانتكاس او التراجع او الخمول . العمل المنتج الجاد والخلاق هو الثمرة الحقيقية لشجرة الثقافة، ودون ذلك تصبح الثقافة مجرد شجرة عقيمة مهما تمظهرت في جذوع وغصون وأوراق.
■ عبد المنعم اللموشي