ويحوى مخزون الذاكرة التاريخية لكل أمة من الأمم قصصا وحكايات الهزائم والنكبات التى ألمت بها وتاريخ كل منها ، وحجم الخسائر والأضرار لكل هزيمة أو نكبة والأسباب الحقيقية التى كانت من وراء تلك الهزائم والنكبات وأسماء ومهام المسؤولين عنها ممن استسلموا لاعدائهم وممن خانوا وجبنوا وقصروا وترددوا في القيام بواجباتهم ومسؤلياتهم وكانوا من وراء إلحاق تلك الهزائم والنكبات بشعوبهم التى تحتفظ بأسمائهم وألقابهم في سجلات الذاكرة الشعبية التاريخية المعدة للعملاء والخونة والجواسيس والمهزومين وتصيغ ما ارتكبوه من الجرائم قصصاً وحكايات وشعرا وأمثلة شعبية ومقولة « العار أطول من العمر » هي تأكيد لعمل ومهمة الذاكرة الشعبية وقدرتها على تخزين جرائم الخيانة واستحضارها حتى ولو بعد مئات السنين ويحتوي مخزون الذاكرة الشعبية للأمة على سجل آخر يتضمن المنجزات والانتصارات والنجاحات التي حققتها الأمم في معارك التنمية ضد الفقر والجهل والمرض، وفي معارك المقاومة والكفاح ضد الغزاة، المستعمرين والطامعين الذين حاولوا احتلال أراضيها ونهب خيراتها. وداخل سجلات الذاكرة المعدة للأبطال والقادة والزعماء والشهداء والمصلحين والمخلصين تبرز أسماءهم وألقابهم مع تفاصيل ماقدموه من أعمال وبطولات وتضحيات حتى حققوا مع شعوبهم تلك الانتصارات والمنجزات. وتحرص الأمم على أن تجعل من تلك الانتصارات والمنجزات أعياداً ومناسبات وطنية وقومية فتقيم في مواقعها النصب واللوحات التذكارية، وتحتفل بها،وتمنح قادتها وأولادهم وأحفادهم الأوسمة والنوط تكريماً وتخليداً لهم، واعترافا بجهودهم ونضالهم ليبقوا أحياءً بين الناس رغم مرور عشرات أو مئات السنين على مماتهم. وتستحضر الأمم تضحيات أولئك الأبطال والمخلصين وما قدموه من أعمال جليلة وتستلهم منها دروساً في الوطنية والإخلاص والتضحية، وتعمل على توثيقها وجعلها مادة دراسية ضمن مقرراتها ومناهجها التعليمية، وضمن أعمالها الثقافية والفنية التي تتناولها الأغنية والقصيدة الشعرية والمسرح والسينما والقصة، فيصير كل من أولئك الأبطال مثلاً يحتذي به في الشجاعة والوطنية والإخلاص والثبات على المبدأ. إن الانتصارات والمنجزات التي حققتها الأمم خلال مسيرتها هي زادها وفخرها ومجدها، وهي جزء حيوي ومهم داخل ذاكرتها التاريخية ولأجل ذلك تحرص على المحافظة عليها وتخشى من الإساءة لها أو تشويهها. إن الأمم تستلهم العبر والدروس والعظات من ذاكرتها التاريخية فتتجاوز الصعوبات التي تعترض حاضرها وترسم لمستقبلها صورة مشرقة يسودها العدل والرخاء والأمن والسعادة، ويمكن القول إن أية أمة لايمكن أن تحيا بدون ذاكرة فهي الرئة التي تتنفس منها، والعين التي تبصر بها، والعقل والبصيرة التي تتدبر الأمور، وذاكرة الأمة هي البوصلة التي تشير نحو الاتجاه الصحيح الذي يجب السير والاتجاه نحوه. إن أهمية الذاكرة التاريخية تفرض على الأمة الحاملة لها أن تكون نقطة باستمرار لتحميها وتصونها من محاولات الإساءة والنيل والتشكيك والتشويه والتسفيه ومانهوض الدول المستعمرة طالبة التعويض عما لحق بها من أضرار مادية ومعنوية تأثرت بها الذاكرة إلا تأكيد على إحساس الدول التي تم استعمارها بأن أضراراً كبيرة قد لحقت بها من الدول خلال زمن احتلالها، ويذكرني هذا الحديث عن الذاكرة لتلك المظاهرات العارمة التي نقلتها لنا الفضائيات المختلفة أوائل القرن الحادي والعشرين وهي تجوب مدن وقرى الصين الدولة العظمى التي تجاوز عدد سكانها المليار نسمة احتجاجاً على ماجاء بمادة دراسية تاريخية يتلقاها الطلاب خارج الصين عند بلاد اليابان تتجاهل دور اليابان الاستعماري وتلحق إساءة لذاكرة الصين التاريخية كما يذكرني هذا الحديث بالاعتذار الذي قدمته إيطاليا لليبيا أوائل القرن الحادي والعشرين عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بالليبيين خلال سنوات الاستعمار الإيطالي، وتوقيعها لاتفاقية تلزمها بإقامة العديد من مشاريع الطرق والتعليم والصحة في محاولة لإظهار حسن النية، والاعتراف بوقوع الضرر ومحاولة جبره والتعجيل بنهوض ليبيا وتقدمها.. إن الأضرار التي تلحق بالأمة بسبب إصابة ذاكرتها التاريخية تكون دائماً فادحة وقاتلة لاتقارن أبداً بحجم الأضرار المادية والبشرية. ولقد شهد التاريخ الإنساني دولاً في القارتين الإفريقية والآسيوية تم استعمارها في القرنين التاسع عشر والعشرين وتم إلحاق خسائر مادية وبشرية كبيرة بها، لكنها قاومت المستعمرين ونالت استقلالها وتمكنت من إعادة بناء وتعمير ماتم تدميره، كما شهد التاريخ دولاً أخرى هزمت ودمرت إبان الحربين العالميتين الأولى والثانية ولكن تلك الدول المغلوبة المهزومة المدمرة نهضت من جديد، وتعافت وبنت قوتها العسكرية والاقتصادية والعمرانية، ويصعب على أية أمة نجح المستعمر بإصابة ذاكرتها في مقتل حتى سلخ كل منهما عن الآخر أن تنهض من جديد، وإن حدث وإن نهضت أو تعافت فلا يكون ذلك إلا بمعجزة كبيرة تكلف وقتاً وجهداً وتضحيات ويحكي لنا التاريخ عن أمم انتهت واندثرت بعد أن هزمت وأصيبت إصابات خطيرة بذاكرتها التاريخية، كما يحكي لنا عن أمم أخرى أوشكت على ذلك، أما ما تبقى منها فلم يعد له دور في الحياة أو أنه يعيش على هامشها، وأين الأمم التي كانت تسكن العالم الجديد بقارة أمريكا الشمالية والجنوبية؟ وأين الجماعات البشرية المتميزة بثقافتها والتي كانت تقطن إقريقيا؟ ويمكن وصف حالة الأمة التي أصيبت ذاكرتها التاريخية بعجز فشل أو شلل بأنها أمة لا تختلف كثيراً عن أية مجموعة حيوانية أخرى فكلاهما يهيم بوجهه على سطح الأرض لا يعرف شيئاً عن ماضيه، وكلاهما لايمكنه التنبؤ بالمستقبل الذي ينتظره، وكلاهما لا يميز بين مواضع الخطر ومواضع الأمن والسلام.
يتبع …
■ عمر الناجم ديرة