مقالات

للأهمية ..

واجبات منزلية

(تسعة أعشار التعليم تشجيع) هذه العبارة أطلقها الروائي الفرنسي ” أناتول فرانس” الحائز على جائزة نوبل للأدب لسنة 1921م عن مجمل أعماله التي من أشهرها صدفة اللؤلؤ و الزنبقة الحمراء و ثورة الملائكة . و لما كان السيد فرانس ، قد توفي عام1924م فمن المؤكد أنه قد حظي بالتسعة الأعشار من التشجيع ، فيما تكفل العشر المتبقي للدرس و التلقين بأن يصنع منه روائيا في مصاف الأدباء الحاصلين على أرفع وسام يسند لكاتب على وجه الأرض ، و لإن غامرت بالجزم أن الأمر قد تم على النحو الذي ذكرته ، فمرده أن ما بين وفاة ” أناتول فرانس ” وإعلان ” روبيرتو نيفز ” بدء ما أسماه )الواجبات المنزلية( ستة وعشرين عاما. السيد ” نيفز ” هو معلم إيطالي ، و قد أراد ذات يوم من أيام العام الدراسي 1950م أن يعاقب تلاميذه بسبب خرقهم شيئا من تعليماته فابتكر ما أطلق عليه الواجبات المنزلية ، الذي سرعان ما تحول إلى كونه واحدا من أكثر الأفكار أذية على مر التاريخ ، و من المرجح أن يكون نظام التعليم العربي ، برمته ، قد أخذ بهذا الابتكار عن التعليم المدرسي بليبيا ، الذي و إن كان قد بدأ التنصل من التبعية المباشرة لنظام التعليم الايطالي ، مع بدأ العد التنازلي لإعلان الاستقلال ، فلابد أنه كان خاضعا لكثير من تأثيراته ، أما الأسوأ من الأخذ بنظام تسليط (العقوبات المنزلية) على التلميذ ، فهو الاستمرار في نهجه ، و العمل بتعاليمه ، ركنا من أركان العملية التعليمية ، على مدى ثلاثة أرباع القرن . و برغم استعادة نظم التعليم العام ، حول العالم ، للتشجيع ، وربما بذات النسبة التي وردت في عبارة أناتول فرانس الشهيرة ، فإن نظامنا التعليمي ما يزال يستدعي التلميذ للمدرسة لبضع ساعات من النهار، تم يجعله يحملها معه ، حين العودة للمنزل. و من المحزن حقا ، أن تلاميذ المرحلة الابتدائية الذين هم الأحوج للطفولة و عوالمها الساحرة ، الملهمة ، هم الأكثر استهدافا بالواجبات المنزلية ، فترى الطفل لا يكاد يصل للبيت حتى يعيد فتح حقيبته ، ونشر كتبه و كراريسه ، ليوغل مجددا في رحلة النقل و التلقين ، لا رغبة في التعلم ، مع شيء من الاستثناءات ، و إنما خشية الضرب و الاستهزاء ، إن هو لم يكرر الرقم 1 مثلا 100 مرة ، أو لم يستذكر جداول الضرب كلها ، و حتى للمرة الألف ، أحيانا ، كتابة حروف الهجاء ، وعوض أن يجري البحث في كيف للمدرسة أن تتزود بالأنشطة ، و المنهاج الحركي ، لتعزيز اليتيمين ، الرياضة و الرسم ، و إن كان هذا الأخير قد لحق بالموسيقى في خانة التجريم و التحريم لدى طائفة من أولياء الأمور ، الذين لم تغلق عليهم أبواب التدين ، ألوان الطيف ، ولا حروف السلم الموسيقي ، حين كانوا هم يرتادون المدارس ، ولكنهم لم يتورعوا عن إغلاق الأبواب و النوافذ على عقول أبنائهم ، خشية الشيطان المتربص لهم ، بين الفرشاة و الألوان. و بدل البحث في جعل التعليم متعة تقبل عليها النفوس ، باتت الفروض المنزلية واجبات دونها الحراب والفؤوس ، ثم يجلس التربويون حول موائد النقاش ، يتناوبون التساؤل عما يجعل التلاميذ يكرهون المدارس . في العام التالي لما أعلن في ليبيا أنها (ثورة الطلاب) تم تعديل نظام امتحانات الثانوية العامة بإضافة ما يعرف بأعمال السنة ، و صار الذي يجاوز مجموع درجات امتحانه النهائي نصف الدرجة المقررة ، يقترب من مرتبة الامتياز، إن هو أفلح في جعل درجة أعمال السنة لديه مترعة حتى الأذنين و هي مسألة فتحت بابا من الضغوط على المعلمين قد تبدأ بالأغراء و قد لا تنتهي عند التهديد ، و لكن الأمر انكشف مع أول امتحان ، و أكاد أجزم أن كثيرا من زملاء الدراسة بجامعة بنغازي (قار يونس) يذكرون أن الذين التحقوا بنا بكلية الاقتصاد العام الدراسي 78 /1979م ، وقد تم ضمهم جميعا في صف واحد لمادة الرياضيات ، وأوكلت مهمة تدريسهم لطيب الذكر ، د. صباح غلام ، رحمه الله ، و بنهاية الفصل الدراسي ، جمع كافة الممتحنين بمدرج واحد ليبلغهم ، بنبرة لهجته العراقية ، و بتأتأة محببة عرفت عنه ، جملة واحدة : (كلوا راسب) رغم أنهم درسوا ذات المنهج ، تقريبا ، الذي وفدوا به من الثانوية العامة. وبالرغم من كون الإعلان عن (تأنيث) التعليم الأساسي أواسط التسعينات ، تقريبا أي جعل كل معلميه من النساء ، قد كشف عن مدى النجاح الهائل في توسيع قاعدة المتعلمين و الخريجين ، في ليبيا ، خلال عقدي السبعينات و الثمانينات إلا أن نجاح التلاميذ ، حتى من دون مجهود أو استحقاق ، بات كمسألة شخصية بالنسبة للمعلمات الأمهات ، و صارت الأمهات ، حتى من غير المعلمات هن من يقمن بالواجبات المنزلية لأبنائهن من التلاميذ و التلميذات ، و مؤخرا تمت إضافة ابتكار جديد يسمى (أبلة شنطة) لضمان كتابة فروض التلميذ الليبي بكل المواد . و المحصلة الوحيدة من كل ذلك ، تقريبا تمثلت في إضافة خمسين عاما من نظام امتحانات يمنح النجاح ، حتى مرتبة الامتياز مجانا لخمسة وسبعين عاما من نظام تعليمي يخلو من كل شغف بالتعليم بل و يجعل منه نوعا من عقوبة تسلط على الطفل منذ عامه الدراسي الأول. و من دون شك أو مواربة لا يفوتني قطعا التأكيد على استثناءات نبيلة جادة و منشغلة أيما انشغال بالتعليم و بالعملية التعليمية و بكل أطرافها من المربين التربويين و من الكوادر و المسئولين ورغبتهم الجادة في إحداث ما ينبغي من تغيير بنيوي وفلسفي يشمل قطاع التعليم بقضه و قضيضه ولا يتوقف عند مثل ما بادر إليه مجتمع التعليم بمدينة صًبراتة مثلا حين اجتمعت أركانه يوما قبل بضع سنين ليتم الإعلان فقط أن مدرسة النجاح للتعليم الأساسي القريبة من محل سكني صارت تسمى مدرسة عقبة بن نافع.

■ بشير بلاعو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى