لايختلف اثنان على أن الموارد الطبيعية والموقع الجغرافي من ب العناصر المهمة ن لازدهار الاقتصادي في أي بلد، هذا إلى ل جانب نظم الإدارة والقوانين المنفذة للسياسات الاقتصادية، والتي بالضرورة ألا تكون بمعزل عن السياسات الأخرى، ولا عن أجندة قوانينها، فالسياسات والقوانين هي التي تعطي المساحات المناسبة لعمل المؤسسات كالمصارف والشركات الخاصة، وهي التي تحدد العلاقة بينها، مثلما تؤسس لشكل هذه العلاقة من حيث المرونة أو العكس، وبالتالي وفقا لطبيعة هذه العلاقة تظهر النتائج .. وعلى الرغم من توفر عديد الموارد الطبيعية والموقع الجغرافي الممتاز، المتتبع لمسيرة الصناعة في ليبيا المدعومة بخامات الطاقة التي هي ركيزة أساسية لكل صناعة، يرصد حالة الاحتشام التي يشهدها قطاع الصناعة العام والخاص، ذلك لأن هذه الإمكانيات المتاحة ارتهنت ما بين السياسات المتناقضة والأخرى غير المستدامة. ففي السنوات الأولى من الاستقال برزت ملامح نهضة صناعية رسم ملامحها القطاع الخاص تحديدا، اعتمدت بشكل أساسي على المنتجات المحلية، لعل أبرزها مصانع تعليب الطماطم التي قدمت منتج ذا جودة عالية لبى حاجة السوق المحلي، مع فائض يتم تصديره للأسواق الأوروبية، هذا إلى جانب صناعات غذائية أخرى مثل المكرونة والبسكويت والحلويات ومواد التنظيف .. إلا أن هذا الحال انتكس، وظل الحال «محلك سر» لسنوات عديدة جراء تغير الوضع السياسي في البلاد، لتظهر خلال ثمانينيات القرن الماضي محاولة أخرى تحت مظلة القطاع العام حظيت بدعم مادي مباشر غير مرشد وغير محدود من الخزانة العامة، وطرها في الأسواق بأسعار أقل بكثير من تكلفة إنتاجها العالية، ذلك لمجرد إظهار ليبيا في صورة بلد مصنع حتى ولو تكلفت وحدة السلعة المصنعة أضعاف أثمانها في السوق العالمي!!. هذا ما حصل بالضبط على مدى عقود من الزمن .. فالمصانع العامة تضخ إنتاجها في السوق بسعر مريح ومناسب للدخل العام للمواطن، لكنه في حقيقة الأمر لم يكن سعرا حقيقيا.. وبمجرد أن غيرت الدولة سياستها الاقتصادية، والعودة من جديد للمربع الأول، رفعت الخزانة العامة يدها وتوقفت عن الدعم، تعثرت المصانع العامة إلى أن توقفت عن الإنتاج نهائيا، وتحولت آلاتها في نهاية المطاف إلى خردة تباع بالكيلو.. وبذلك انتهت مرحلة ليست بالقصيرة دون أن يتحقق من ورائها استثمار في العنصر البشري، حيث لم يتأهل سوى عدد يسير من العامل في ن الصناعات الغذائية تحديدا، ظهر ذلك جليا في اعتماد بعض مصانع القطاع الخاص على العمالة الفنية الوافدة.. الآن هناك محاولات محتشمة من قبل القطاع الخاص الذي يركن بشكل كبير للتجارة في ظل التشجيع الرسمي الذي ياقيه هذا التوجه بحجة وفرة السلع لبالسوق المحلي، وضمان الأمن الغذائي . إلا أن هذه المحاولات تعتمد بشكل شبه شامل على المواد الأولية الموردة من الخارج بالعملة الصعبة، وهي بذلك كأنها لم تكن طالما المواد الخام المحلية باقية خارج المعادلة. ولاقتراب من الموضوع بشكل أكثر وضوحا سنأخذ الصناعة في «تونس» مثالا، فهذه الدولة الجارة ذات الموارد الطبيعية المحدودة، استثمرت المتاح المتمثل في المناخ المائم للزراعة، وبذلك استطاعت أن توفر نسبة عالية من احتياجات سوقها المحلي من السلع الأساسية المعتمدة على المواد الأولية المحلية، ويكفي للدلالة على ذلك أن فائض إنتاجها من هذه السلع يم السوق أ الليبي، كذلك الحال بالنسبة لدولة الإمارات العربية المتحدة التي استثمرت المتاح فتحولت من بلد صحراوي صغير إلى مركز مالي عالمي، كما أن هذا القياس ينطبق على دول أخرى عديدة كاليابان وسويسرا والدول الإسكندينافية، والبرازيل .. وهذا بالطبع لم يأت نتاج الصدفة أو نتيجة ضربة حظ، بل نتاج سياسات منتقاة، تركزت بشكل كبير على تشجيع الأعمال وإدارة عامة سهلت تنفيذها.. فمتى ياترى يخرج اقتصادنا من النفق «الريعي» لنقدر على تسمية الأمور بمسمياتها الصحيحة، لأن أي اقتصاد با تنمية هو اقتصاد هش عرضة لتأثير التقلبات الطارئة الممكن حدوثا في أي لحظة، وتداعيات جائحة كورونا على الاقتصاد العالمي خير دليل.
■ إدريس أبوالقاسم