ألقي علي عدد من الأخوة الأصدقاء اللوم بسبب توقفي عن المساهمة في الكتابة الصحفية، وألحّ علي آخرون بضرورة العودة للكتابة خاصة في هذا الوقت الذي تحتاج فيه بلادنا إلى كل فعل وقول يدفع بها نحو برّ الأمن، والأمان ويعيد لها وحدتها وسيادتها وهيبتها، ويرممّ ماتهدّم من نسيجها الاجتماعي، ووجدت نفسي هدفاً يُلقى عليه باللوم تارةً، والدعوة الملحة تارة أخرى، وخوفاً من أن تستمر هذه الحالة من حولي دون حجج ومبررات كافية من جانبى فتصيب بذلك مشاعري، وتفعل بي ماتفعل، وتحدث آثاراً في نفسي فرأيت أن أقبل واستجيب واستلم وأستريح من كل ذلك اللوم والإلحاح الذي بات يؤرقني ويؤلمني ولعّل في ذلك خير لي وأجر وثواب من شأنه أن يزيد من رصيد حسناتي ،ينتميها ، ويعفو عن كثير من سيئاتي وأنا شيخ قد تجاوزت السبعينات من عمري وبدت من أمامي الثمانينات قاب قوسين أو أدنى . ورأيت أن أبدا بسلسلة من المقالات الأسبوعية كنت قد توقَّفت عن نشرها منذ سنوات طويلة وكانت قد بلغت قرابة الثمانين مقالاً تحت عنوان رئيسي عام هو (من وحي الرسائل) مع عنوان آخر ومحدّد يحمل رقمٍا متسلسلاٍ، ومضمونة بحثًا أو تفصيلاً أو مناقشة أو وجهة نظر تتعلق بموضوع ما أو مسألة من المسائل التي تهمّ الوطن أو تشغل بال المواطنين . إنّ الرسائل التي أقصدها هنا هي كل الرسائل التي تحيط بنا، وتحدث من حولنا، وتخاطبنا بشفرات وأدوات متعددة فتوحي لكل باحث ،مهتم ،متخصص بالتأمل والكتابة ،هي بذلك لاتقتصر كما يبدو للكثيرين على تلك الرسائل التي يخطها القلم أو ترسمها الآلة حروفاً وكلمات يعبّر فيها الإنسان مثلاً عما يدور بخلده أو عما يريده . إن الرسائل المقصودة هي كل الرسائل المكتوبة وغير المكتوبة التي مصدرها الإنسان أو الحيوان أو الطير أو النبات أو هذا الكون الذي يضمنا، ويخضعنا لنظامه، وكانت ولازالت في مجموعها مصادر ومنابع وروافد أفادتني كثيراً في اختيار المناسب منها ليكون سبباً رئيسياً من وراء وفرة وتنوع المادة الكتابية للمقالات التي أسال الله أن يعينني على كتابتها والاستمرار فيها فأكون بذلك قد اجتهدت واكتفيت بالأجر الواحد إن اخطأت أو قصّرت . ولمزيد من الشرح والتوضيح سأسوق في هذه المقدمة وبمناسبة عودتي لكتابة مقالات من وحي الرسائل عدداً من أنوع وأدوات الرسائل التي رأيتها غير مكتوبة وقد عبّر فيها الإنسان عما يدور من حوله دون الحاجة لأن تكون أدوات التعبير في رسائله أحرف وكلمات وجمل وعبارات . فالرسم والنقش والنحت مثلاً فنون أراد في الحقيقة أصحابها التعبير بها عما يدور بخواطرهم فدّونوها مشاهداً وصوراً وتماثيلَ وحقائقَ عن المكان والزمان الذي عاشوا فيه وأهم الأحداث التي تأثرت بها حياتهم ليكتشف الباحث المتأمل في تلك النقوش والرسوم والتماثيل بأنها (رسائل) ثمينة متنوعة تحمل في طياتها رصيداً كبيراً من المعلومات التاريخية القيّمة التي تفسر وتوضح حقائق عن المناخ والنبات والحيوانات التي كانت سائدة زمن رسمها ونقشها ،نحتها، كما يمكن للمتخصص أن يهتدي من خلال تلك الرسائل إلى معرفة أنشطة وعمل المجموعات البشرية وأدواتهم المستعملة لكل نشاط، نوع العلاقات التي كان سائدة فيما بينها، أو فيما بينها وبين مجموعات بشرية أخرى مجاورة لها، أو وافدة إليها من أماكن بعيدة . والأحاديث (الهدرزة) العفوية داخل مناسباتنا الاجتماعية أو خلال جلسات والسمر والأنس والالفة المحدودة – إن وجدت- تحمل خلالها كثيراً من الرسائل التي تبحث أو تعالج أو تختص بمسائل حياتنا المختلفة لتعبّر في الحقيقة عن وجهات نظرنا وردود أفعالنا تجاه مايجري من حولنا، وغالباً ما يكون في مضمون تلك الأحاديث مواقف وقرارات وآراء ظاهرها نكته أو مثل شعبي يلقيه أحدنا بقصد أن يتخلل تلك الأحاديث لحظات من الفرح والمرح والإعجاب تجبرنا على الضحك والابتسام في زمن قل فيه الضحك وانعدم فيه الابتسام؟! كما لاتخلو مثل تلك الأحاديث العفوية من رسائل أخرى مفيدة تحمل العظة والاعتبار، والدروس المستفادة نتلقاها ،ونستلمها من مضمون حكاية قصيرة أو مثل أو شعر شعبي ألقاه أحد المتحدثين المشاركين عفوياً بمناسبة اقتضاها المقام، وما أحوجنا هذا اليوم أن نستفيد من تجارب الآخرين ،نستلهم منها العبر و،العظات فنجنب أنفسنا الأخطاء والكوارث التي وقعوا فيها؟! وحكايات وتخاريف (جداتنا) التي تنقل لنا تراث الأولين وقصصهم وبطولاتهم هي الأخرى رسائل مفيدة تخوض بنا نحو أحداث الماضي فتسبر لنا أغواره ونستلهم من فصولها العبر والدروس والعظات لتغرس في نفوسنا المعاني النبيلة للتضحية والبطولة والفداء وتكشف لنا المصير الذي آل إليه الخونة والمتردّدون والجبارون والجبناء فنستهجن ونلعن منذ طفولتنا أفعال الخيانة والغدر والطمع وبيع الوطن بالبطن ولانقبل بحياة غير حياة العزة والكرامة والأباء، ونأسف اليوم وبعد أن صرنا أباء وأجداداً عن زمن مضى ولن يعود كانت فيه الجدّات تتفنن في إلقاء مثل هذه القصص والحكايات بل الدروس والمحاضرات التي كنا لانستسلم للنوم إلا ونحن صاغون متابعون لها، ونتألم في ذات الوقت لزمن قائم وزمن قادم افترست فيه القنوات الفضائية ووسائل ووسائط التواصل الاجتماعي المختلفة أجيالنا من بين ايدينا بما تبثه وتدسه من صور وأخبار ومسلسلات تدمر الأخلاق والمفاهيم والقيم الإنسانية النبيلة حتى أن هذه الأجيال لم تعد تبحث أو تعرف شيئاً عن ماضيها القريب أو البعيد، وصارت أحداث وحوادث وذكريات كل جيل تنتهي بانتهائه، ولم تعد الأجيال اللاّحقة تعرف إلا القليل عن ماضي وتاريخ الأجيال التي سبقتها لتبرز أمامنا أجيالاً بلاذاكرة، وبلاتاريخ، وبلا رباط يشد ماضيها بحاضرها ومستقبلها مما يتسوجب من مؤسسات المجتمع المختلفة اليوم أن تفكر وتبادر بمعالجة هذه المسألة الحساسة والتعاون لمحاولة انقاد مايمكن انقاده وسد هذا الفراغ القاتل بالإبداع والابتكار الذي يجب أن يمتد ويشمل مناهجنا الدراسية ووسائل إعلامنا المختلفة، ومؤسساتنا الاجتماعية والدينية المتعددة فتقوم بهذا الدور الذي كانت تحمله وتتولاه (الجدات) عن طريق (التخريف) الذي هو ليس بتخريف ولا أحد ينكر أن كثيراً من تخاريف جداتنا القديمة ساهمت بحق في صقل وبناء شخصيات المستمعين لها، ونجحت في وصل ماضيهم بحاضرهم فأنارت من أمامهم دروب المستقبل وآفاقه وأفرزت من بينهم ابطالاً وقادة وعلماء كانوا لاينامون إلا على وقع وتخاريف جدّاتهم.
■ عمر الناجم ديره