لا أدري لماذا كلما لامست أناملي “الكيبورد” لوحة المفاتيح و شرعت في الكتابة تقف ماثلة أمامي بكل عنفوانها وكبريائها، بأفراحها وأتراحها ،بتاريخها وحاضرها، تستفز الفكر والقلب وتطالبني أن أواصل كتابتها وقراءتها وإعادة رسم حروفها الخمس ونقشهم على كل حبة من ترابها الدافيء .. كل المواضيع والقضايا تتلخص في ليبيا ،هذا الوطن المكلوم والذي تاه منا أكثر مما يجب ،وأبعد مما ينبغي . لن تعيده الكلمات وإن جعلنا البحر مدادا والحصى أزرار حواسيب .. ولكن السكوت مميت والتفكير الجمعي بصوت عال بات ضرورة ووسيلة مهمة لتجاوز هذه المرحلة حفاظا على ما تبقى من أجل الوصول بأبنائنا وأجيالنا القادمة إلى غد أفضل ،خاصة وبن أيدينا جيل ناشيء نراه يعيش واقعا لا يمكن أن نصفه بالمثالي ولا حتى بالطبيعي وهو ينشأ ويتأسس في ظل أوضاع مشوشة، فقدت فيها المؤسسات التربوية التقليدية قدراتها على البناء و التنشئة، وضعفت أمام كم المتغيرات المحلية والكونية والتي أوقعت كل المجتمعات البشرية التي تشاطرنا الحياة على هذا الكوكب في منعطف حضاري مختلف ، لن تتغير فيه خرائط الدول وسياساتها فحسب، بل ستشهد انقلابا قيميا وإجتماعيا غير مسبوق، يشمل أنماط السلوك والعلاقات والظواهر والبنى والنظم الاجتماعية وكل ماينتج عن الإنسان ككائن اجتماعي . وسيجد البحاثة والدارسون وكل العاملن في حقول المعرفة الاجتماعية أنفسهم مجبرين على التخلي عن كل ما درسوه وتعلموه من (دوركايم وأوجست كونت وهربرت سبنسر وماكس فيبر وروبرت ميرتون) وكل جهابذة وعلماء الاجتماع القدامى والمحدثن ،خاصة أولئك الذين اعتمدوا في فهم الظواهر الاجتماعية على المنهج الفلسفي التحليلي ، دون أن نثق أيضا في مقدرة المدارس البحثية الأخرى من بنيوية وتفكيكية ورمزية وتفاعلية وانعكاسية وغيرها من النظريات التي تستخدم في البحث أدوات ماقبل الرقمية . لهذا نجد الكثير من المجتمعات التي وعت أهمية تتبع ورصد ودراسة أثر التكنولوجيا والاستخدامات التقنية المعاصرة من رقمية وغيرها على الخصوصية الاجتماعية للمجتمعات وعلى منظومة القيم ، ويقترحون الحلول الوقائية في سبيل الحفاظ على الهويات والأنماط الثقافية أمام هذا المد التكنولوجي المتزايد والذي أفقد الكثير من الشعوب خصوصياتها وشوه ملامحها الحضارية التي حافظت عليها لمئات السنين . في بلادنا للأسف الشديد نجد الباحثن في العلوم الاجتماعية يغيبون ويغيبون أدواتهم البحثية رغم تزايد عدد المختصن في علم الاجتماع وفروعه المختلفة ورغم الأقسام العلمية التخصصية التي لاتكاد تخلو منها جامعة من جامعاتنا المنتشرة في كامل ربوع بلادنا، ويدرس بها المئات ممن اختاروا علم الاجتماع دون أن يدركوا أن هذا الحقل المعرفي غادر مدارج الجامعات في العالم وصار مساندا أساسيا وصانعا للسياسات المجتمعية، وشريكا قويا لواضعي الخطط والبرامج الهادفة إلى رفعة البلدان وتطورها، ونجده في بلادنا للأسف لايزال بعيدا عن هموم المجتمع والوطن رغم حاجة مجتمعنا له ، ف ا نرى أي نشاط بحثي يستهدف مجتمعنا و ما استجد من متغيرات بتنا نعيش آثارها وتداعياتها وباتت آثارها تطال منظومة قيمنا وتنهش في وضح النهار الخصوصية الثقافية الليبية التي حافظ عليها أسلافنا مئات السنين رغم الحقب الاستعمارية ومحاولات التغريب التي فشلت جميعها أمام مقاومة الأجداد من أجل الحفاظ على الشخصية الليبية . واليوم ننتظر من باحثينا في العلوم الاجتماعية وأساتذة الجامعات والمختصن أن يشحذوا الهمم ويسهموا بجهودهم البحثية، ليرفعوا الغموض عن عديد الظواهر التي بدأت تغزو مجتمعنا.
■ الفيتوري الصادق