لم أتفاجأ ، و أنا أقلب صفحة الغلاف الأخير لرواية (صندوق الرمل) للكاتبة الليبية “عائشة إبراهيم” أن قفزت لذهني مقولة الزعيم البوسني الراحل (علي عزت بيقوفتش) مفادها أن القراءة من دون أن تعمل ذهنك ، لا تساوي شيئا ، و مساهمتك الشخصية تعدل ضرورة عاملي الوقت و العمل الداخلي ، للنحلة حتى تحيل رحيق الزهور إلى عسل. لا أتوانى عن التأكيد ، هنا ، أن ابنة بني وليد ، التي صارت ذائعة الصيت ، قد هيأت نفسها جيدا و أعدت قلمها كما ينبغي ، لتسرد على مسامع الورق ثالث أعمالها الروائية ، و قد صدرته عنوانا له دلالات خاصة عند الليبين ، فهو يكتنف إيحاءات ذات مشاعر مغلفة بأحاسيس الذل و الظلم و المهانة و الاحتقار ، ذلك أن صندوق الرمل ، ليس سوى ” طرابلس ” حسب نعت أطلقه السيناتور / غايتانو سالفيميني ، في معرض رفضه إرسال عسكر إيطاليا إلى ما وصفه بالمحرقة التي تنتظرهم عند الشاطئ الليبي ، و هي ، أي طرابلس ، مكان عديم الفائدة ، و ليس بها ما يستحق المغامرة ، و لكن أحدا ما كان ليستمع لصوته وسط جوقة كان صوتها أعلى ، و تأخذ بلب جشع الطليان ، الذي كان يزداد اشتعالا على وقع أغنية (Tripoli bel suo d’amore) و كان مقطع في أغنية (طرابلس أرض الحب الجميلة) يقول : طرابلس ، أرض الحب الساحرة ، ستغدو إيطالية بهدير المدفع ، إذهب أيها الجندي فإيطاليا معك و المواسم الحلوة تنتظرك. هذا النداء المغموس في براميل البارود ، و إن ضمخته نكهات ثمار الأرض ، هو ما كان يؤطر صرخة إيطاليا لاحتلال ليبيا عام ألف وتسعمائة و أحد عشر ، منذ مباركة البابا ، و رشه الماء (المقدس) على أفواج الجند ، وقطع الأسطول المبحر للغزو ، حتى أفقر فلاح نابوليتاني ، يحلم بزهرة (كاليفيوري) يلتهمها وحده ، مرورا برئيس الوزراء “جيوفاني جوليتي”و كافة أعضاء حكومته ، و جنرالاته ، الذين ما تزال مرارة الهزيمة أمام جيوش النمسا ، و مذلة الانكسار المريع على يد المقاوم ن الأحباش ، في (عدوة) بإثيوبيا ، تمرغ أنوفهم في التراب. تقول السيدة ، عائشة إبراهيم ، في حديث لقناة ثقافية بالراديو الجزائري ، أواخر العام المنصرم ، أنها استمعت لأغنية (طرابلس أرض الحب الجميلة) على للموسيقى على شبكة الإنترنت ، ولعل (you tube) بطريقة أدائها الإستفزازية ، (gea jursinda) و كلمات الأغنية الموغلة في العدوانية و الفجور والتحريض على احتلال ليبيا ، هو ما دفعها للبحث عن المزيد في فصول الحملة الاستعمارية الإيطالية لتي شنتها إيطاليا على الأراضي الليبية ، تحت شعار حالم بإزاحة رماد القرون عن إمبراطورية بادت ، و هو استعادة شاطئها الرابع. إذا كانت مقاطع أغنية (جيا جاسيندا) قد استفزت ملكة القص لدى السيدة ، عائشة إبراهيم ، لتهب القارئ عم ا روائيا آخر ، بعد “قصيل و حرب الغزالة” ، فإن مقولة النائب (سالفيميني) التي أطلقها تنفيرا من مغبة غزو ليبيا ، هي ما جعلها تخط (صندوق الرمل) عنوانا لهذا العمل ، و ليس العنوان وحده ، فبجرأة غير معهودة ، ربما ، و بشجاعة ، غير معهودة ، في مثل هذا الموقف ، لم تتردد في الإعلان عن كونها قد استندت في تفاصيل كثيرة من الرواية على ما عثرت عليه ، على نحو خاص ، في أرشيف صحفي إيطالي هو (باولو فاليرا) ، عايش الإعداد لاحت ال ليبيا ، و ناصره ، ثم صار من أشد معارضيه ، عقب مجيئه إلى طرابلس ، و ما شاهده عيانا من بشاعة الحرب على شعب يكاد يكون أعزلا ، بعد أن سحب الترك حامية المدينة قبيل ظهور قطع الأسطول الحربي الإيطالي ، بزعم المشاركة في سحق تمرد جد باليمن ، ثم لم يلبث الباب العالي أن وقع صك تسليم البلاد للطليان طوعا بوثيقة رسمية في الثالث من أكتوبر من سنة ألف وتسعمائة واثنتي عشرة بضاحية أوشي في مدينة لوزان السويسرية ، وكأن نحوا من خمسمائة عام من الاحتلال التركي لم تجعل لليبي عند بني عثمان ودا!؟. أرشيف السيد ، فاليرا ، و كتاب (حرب إيطاليا من أجل الصحراء) الذي نشره مراسل صحفي ايرلندي ، يدعى (فرانسيس ماكولار) عقب مشاهداته الحية لمعارك استيلاء الطليان ، خاصة ، على طرابلس ، لا تخفى نها شبهة حرب الإبادة الجماعية ، هما وثيقتا سند السرد الرئيس في رواية (صندوق الرمل) ، و قد أكدت الكاتبة ، نفسها ، ذلك في المقابلة الإذاعية المشار لها آنفا ، و لكنها لم تغفل توضيح مقصدها من وراء جعلها “ساندرو كومباريني” ، أحد جنود فوج الاقتحام الأول لحرمة طرابلس ، و الشخصية الرئيسة المقابلة لشخصية ضحيته ، التي شغف بها ، حليمة ، بمثابة الراوي لوقائع ما جرى في (صندوق الرمل) في غضون أشهر قليلة أعقبت اللحظة التي وصفها الصحفي الإيرلندي ، ماكولار، في كتابه المذكور أعلاه بالقول : في الثالث و العشرين من أكتوبر ، و الشمس تميل إلى الغروب ، أخذت رياح الجنوب تغشى المدينة ، و ارتفع صوت المؤذن ، و خر المؤمنون سجدا ضارعين لله ، ” كن معنا “. وفي القلاع عبس الطرابلسي في وجه الأغراب وقطب وفي المنازل علت أصوات المصليات عبر النوافذ ، و رغم اللعنات ، و الصلوات ، و النظرات الغاضبة ، العابسة ، صاح الغزاة من فوق مدمراتهم في صوت كالرعد : ” لقد عاد أحفاد الرومان”. في مقابلتها مع القناة الجزائرية المسموعة ، وقد جئت على ذكرها آنفا ، تحدثت السيدة “عائشة إبراهيم” عما جعلها تدفع مخيالها خطوة للخلف ، و تترك للصحفي ن ، الإيطالي و الإيرلندي ، و من خلالهما طيف واسع من السياسيين ، و العسكريين ، و الكتاب ، والفنانين ، وعسس السجون ، و الكهنة ، و حتى الأطباء والممرضين ، و من كل فئات المجتمع الإيطالي ، تفسح لهم المجال للتناوب على عرض فصول المأساة البشعة التي حلت بليبيا ، و عانى قسوة جورها الليبيون على يد الاحت ال الإيطالي .. من فمك أدينك ، هو النهج الذي اتبعته الروائية الليبية “عائشة إبراهيم” في كتابة وقائع مأساة جرت بمدينة طرابلس ما بين أواخر سنة ألف وتسعمائة وأحد عشر، وأوائل ألف وتسعمائة واثني عشر ، لتضع بين يدي القارئ ، و للتاريخ ، سردية ، هي بمثابة وثيقة اتهام أخرى لارتكاب إيطاليا حرب إبادة جماعية في ليبيا .. وثيقة مقرونة بالشهود والأدلة ، و حتى الأسماء. قد يبرز تساؤل ، هنا ، و ربما بشيء من اللؤم ، فيقال إن كانت الكاتبة قد تبنت مؤلفا استقت سطوره مما نشره آخرون ، فأين وجه الإبداع فيما جاءت به؟. قد أكتفي بالقول أن الرواية كفيلة بالدفاع عن نفسها ، بنفسها ، كنص يجمع بين أدب السيرة ، و علم التوثيق وشغف البحث ، و هو ثري أيما ثراء بصور الحرب و الحب ، و الشهامة ، و الذل ، و الكرامة ، و الشجاعة و الجبروت ، و الاستعلاء ، و الخذلان ، و فوق كل ذلك ، شيء من بورتريه “عائشة إبراهيم” الروائية الليبية التي تنافس النحلة في التنقل بين مروج الزهور لتقدم من خلاصة رحيقها قطرة عسل لن يغادر مذاقه طرف لسانك ، حتى و إن كان بمرارة ما ستجده في “صندوق الرمل”.
■ بشير بلاعو