أحفاد الإغريق وأحفاد المختار
كثير من الليبيين ما يزال عالقا بأذهانهم ، حسب ظني ، ما ذاع يوما من أن الملياردير اليوناني الشهير (أوناسيس) قد قدم عرضا للحكومة الليبية ، إبان ستينيات القرن الماضي ، يتملك بموجبه حقوق استثمار منطقة الجبل الأخضر ، وبما في ذلك الشواطئ التي تطل عليها والتي زعم البعض ، حينها ، أنها تمتد ما بين مدينتي درنة والبيضاء ، أو ما قبلها بقليل عند شحات ، التي ما تزال تشهد على أن أسلاف أوناسيس طاب لهم المقام بها عدة قرون ، كانت إمبراطورية الإغريق خلالها قد تمددت منذ كامل أراضي اليونان وما جاورها ضمن الحوض الشرقي للبحر المتوسط حتى قمم سلسلة جبال الهيمالايا ، حيث استقر نفوذ سلالة الدلاي لاما عند التبت على الحدود ما بين الصين وشبه الجزيرة الهندية. الثري اليوناني الأشهر ، يوم ذاك ، أرسطو أوناسيس ربما كان ينوي النسج على منوال سلفه ، الإسكندر المقدوني ، الذي جعل للإغريق إمبراطورية ضمت أجزاء واسعة من ثلاث قارات ، دفعة واحدة ، ولكن ملك ناقلات النفط ، كما كان يطلق عليه ، كان يتطلع لإمبراطورية قوامها المنتجعات ، والمدن السياحية عبر العالم ، وربما كان يأمل أن تكون (شحات) عاصمة لها ، فيعلن ، بذلك ، أنه وريث الحلم الأسطوري لأجداده ، ببناء (أثينا) الثانية ، على الضفة المقابلة من البحر المتوسط ، وكانوا لم يألوا جهدا في إكساب (قورينا) أو (سيرين) الكثير من ملامح عاصمتهم التاريخية ، سواء بما بذلوه في فن العمارة ، أو بما جلبوه من طرز معابد جبل الأوليمب ، ثم جعلوها برعاية مؤلههم الأكبر ، أبوللو.من مفارقات ما جرى بشأن تلك الواقعة ، أن السيد / أوناسيس ، الذي حمل إسم المعلم الأكبر للحضارة اليونانية ، أرسطو ، ويحمل والده إسم فيلسوف أثينا وشهيد الحكمة ، سقراط ، ولم يتوقف سقف طموحه عند ما ورثه عن والد زوجته الأولى ، ملاح السفن ، ستافروس ليفانوس ، من براعة في إدارة أساطيل النقل البحري ، فقفز لتملكها ، كما قفز لأحضان مغنية الأوبرا الشهيرة « ماريا كالاس « فجعلته في صدارة مجالس نجوم المجتمع ، والفن ، على نحو خاص ، ثم جاءت صفقته الكبرى عام 1968م حين أقنع (جاكلينظ) أرملة الرئيس الأميركي الراحل ، جون كنيدي ، بالزواج ، وظل معها حتى وفاته عام1975م عن تسعة وستين عاما ، ولكن جميع خبراته في التفاوض و الإقناع باءت بفشل ذريع في الحصول على موافقة السلطات الليبية ، حينذاك ، على ما كان يرجوه من مشاريع للسياحة ، والاصطياف ، والاستجمام ، بربوع الجبل الأخضر ، وقيل يومها أن الرد الليبي كان مغلفا بكثير من الدماثة ، والتهذيب ، ومعاني الفضيلة ، فقد تذرع الرفض بكون المجتمع الليبي هو « مجتمع محافظ « ، ولا تتماشى سماته و مبادئه مع السياحة و متطلباتها ، بالرغم من أن من (متطلبات السياحة) كما هي مصنفة لدى الكثيرين ، كانت حتى عام 1969م مصرح بها قانونا في ليبيا ، و تزاول علنا تحت أنظار و بحماية السلطات ، و كان مرتادوها ، على الأغلب ، من أبناء ذات المجتمع المحافظ. ما يزيد عن نصف قرن ، مر حتى الآن عما تم تداوله بشأن محاولة سليل (أثينا) طرق أبواب (قورينا) ولكن الاعتقاد ما يزال راسخا بين أكثر من حاورتهم بشأنه من الليبيين ، أن الرفض الحكومي ، حينها ، لم يكن مدفوعا بشعارات « المجتمع المحافظ « ، بقدر ما كان يتكئ على (شيشمة) سائل الذهب الأسود ، الذي بدأ يتدفق أواسط الستينات ، واليوم ، وبعد رحيل السيد / أوناسيس ، وضياع ديسمبر ، وأفول سبتمبر ، وتداعيات فبراير ، لم يعد أحفاد حفيد الإسكندر ، ولا غيرهم من رجال الأعمال ، حول العالم ، يطلبون لدى « أحفاد عمر المختار « مشاريع تدر المال ، على أي نحو كانت ، لقد بات راسخا لدى كل الشعوب ، تقريبا ، أن الليبيين ، وقد جنبهم النفط أعباء ، ومتاعب صناعة الثروة ، لم يعودوا منشغلين بغير كيفية إنفاقها ، ومن دون شك فإن قسطا منها يذهب ، قطعا ، لاستكشاف (متطلبات السياحة) .. يقال أن «شحات« ليست اشتقاقا من قورينا أو سيرين ، و إنما هي نسبة لما صار عليه الماء بها من شح ، ولكن من المفارق أن (نبع أبوللو) المتدفق من عمق الجبل ، لم يفارق ماءه الجريان ، ولا تكاد تلحظ أن شيئا بها أخر قد تغير منذ أن غادرها الإغريق.
■ بشير بلاعو