آفاق التربية … و واقع التعليم

كأي متقاعد من مهنة ما قضى بها أجمل سنوات عمره فإنه في أغلب الأحوال يميل إلى الوحدة التي تصبح لديه ضرورة أكثر منها اختيارا حينها تتوارد الخواطر على المخيلة لتعيد لك شريط مواقف وأحداث مرت بك .. وزمن أصبح من الماضي ولن يعود.. ويبقى أجمل ما يمر بك ذكرياتك في مهنتك تستعرضها بكثير من الحنين والشوق إليها منذ البداية؛ كان جيلي أغلبه يلتحق بمعاهد المعلمين ربما بدافع ضرورات اجتماعية ملحة تفرض اختصار الوقت للوصول إلى الوظيفة العامة لتوفير متطلبات الحياة للأسرة التي تنتظر على أحر من الجمر تخرج ابنها البكر ليحل لها أزماتها الاقتصادية المتفاقمة في ذلك الوقت .. ربما هذا أحد مبررات توجه أغلب جيلنا إلى معاهد المعلمين ؛ إضافة إلى رغبة الدولة آنذاك في سد النقص الكبير في شريحة المعلمين التي تعاني منه أعلب المدارس خاصة بعد انتشارها في المدن والقرى . التحقنا بالمدارس الابتدائية وكنا شبابا متحمسين للعمل بدافع شعور وطني صادق ورغبة كامنة فينا بدفع عجلة التعليم إلى آفاق أرحب.. تعودنا أن لا نذهب للمدرسة في اليوم التالي إلا بعد قضاء جزء من الليل في تحضير دروس الغد بكراسة معدة لهذا الغرض تسمى كراسة التحضير وهي الخطوة الأولى التي يقوم بها المعلم على ضوء مصباح كيروسين مع ضوئه الباهت ينفث دخانا يملأ الأنف بسخام أسود كريه الرائحة .. وكان الموجه التربوي عند زيارته للمعلم بالفصل يحرص على أن أول ما يطلع عليه هو كراسة التحضير ويقرأ بتمعن خطوات الدرس كما كتبها المعلم ثم يوقع عليها مبديا في الكثير من الأحيان ملاحظاته التي يدونها بزاوية الورقة والتي يرى ضرورة تدوينها ليطلع عليها المعلم فيما بعد ويعمل بمقتضاها في الأيام الدراسية القادمة، وفي تقرير الكفاءة السنوي الذي يعد من قبل إدارة المدرسة والذي يحوي مستوى كفاءة المعلم وطريقة تدريسه والمستوى التحصيلي للتلاميذ؛ كما أنه لا يغفل حتى علاقة المعلم بزملائه ولباسه أيضا ..وكنا نحن المعلمين ننتظر نتيجة هذا التقرير في آخر السنة بكثير من الخوف فنتيجته دائما حصول عدد منا على تقدير ضعيف مما يرشحه إلى دورة تقوية خلال العطلة الصيفية ، ونتيجة لما لوسائل الإيضاح من دور كبير في توصيل المعلومة للتلاميذ فقد كنا حريصين أيضا على تنفيذ عدد من الرسومات والصور بالبيت باستخدام الألوان لتكون الوسيلة جاذبة لاهتمام التلاميذ وحثهم على التركيز والانتباه . ما زلت أذكر وأنا طالب بالمرحلة الإعدادية مدرس الجغرافيا الذي كان قبل أن يشرع في شرح الدرس يقوم برسم خريطة البلد المتعلق بها موضوع الدرس على السبورة مستخدما أصابع الطباشير الملونة وكانت من الدقة إلى درجة أنه يخيل لك أنها رسمت بآلة طابعة مما يجعلها ترسخ في أذهاننا ؛ كل هذه الأشياء كانت في الماضي أما الآن إلا ما رحم ربي إذ لم يعد المعلمين والمعلمات يهتمون بكراسة التحضير وحتى أغلب الموجهين التربويين أصبحوا لا يسألون عنها رغم أهميتها كخطوة أولى في إعداد الدرس . كنا نحن جيل المعلمين القدامى نحرص على أن تسير التربية في خط متواز مع مسار التعليم لأننا نؤمن بالعلاقة الوثيقة بين التعليم والتربية من منطلق أن )التعليم عملية منظمة تهدف إلى اكتساب الشخص المتعلم للأسس العامة البانية للمعرفة ويتم ذلك بطريقة منظمة ومقصودة بأهداف محددة ومعروفة ( فيما تعرف التربية بأنها (العملية التي يسعى من خلالها الأهل لتوفير البيئة الآمنة التي تمكن طفلهم من التثقيف والتفاعل مع المجتمع الذي يعيش فيه) ومن هنا فإن التربية والتعليم صنوان لا يفترقان وإذا حدث أن تراجع أحدهما أمام الآخر فإن ذلك يضعنا أمام خلل اجتماعي قد لا يتم اصلاحه إلا بعد عقود طويلة من الزمن . نحن بحاجة الآن إلى ضبط العملية التربوية والتعليمية بما يضمن سيرهما على إيقاع متكامل يؤدي إلى خلق المواطن الصالح القادر على النهوض بالتزاماته الوطنية ولن يتأتى ذلك إلا ببناء المعلم الكفؤ المدرك لخطورة رسالته والواعي بمتطلبات مهمته.. ولكن الذي يحدث الآن هو التركيز على الجانب التعليمي دون الاهتمام بالجانب التربوي مما أدى إلى خلل واضح في سلوك الكثير من النشء وانحرافه عن الطريق المؤدي إلى نجاحه وتحقيق أهدافه في الحياة .
■ عبدالله مسعود ارحومة