أكاد أجزم أن ما من أحد من الليبيين ، و من غيرهم ، شاهد (حياة الماعز) إلا وامتلأت نفسه تضامنا مع ” نجيب ” الشخصية الرئيسة بالفيلم الهندي ، الذي عرض مؤخرا ، و تابعه مئات الملايين على منصة Netflix ، و ربما يكون (بريتفيراج سوكوماران) قد لعب الدور الذي سيظل العلامة الفارقة في مسيرته المهنية بمجال التمثيل ، و في ظني أن حتى أولئك الذين رأوا في العمل قدرا كبيرا من التجني على وظيفة (الكفيل) في النظام العمالي ، و ربما حتى الأمني في مملكة آل سعود ، فأرجح أن موقفهم يعكس ، في جانب كبير منه ، مدى النجاح الذي حققه الممثل المذكور في جعل العمق الإنساني لشخصية ” نجيب ” يكشف مدى التوحش الآثم لكفيله ، الذي قام بدوره و أداه ببراعة .. أيضا الممثل العماني (طالب البلوشي) ، وكما المحاسن فإن المساوئ ، تظهرها الأضداد . وقائع الفيلم تم نقلها عن قصة لروائي هندي يدعى (بنيامين) صدرت عام 2008 بعنوان (أيام الماعز) باللغة الماليالامية التي يتحدثها سكان ولاية Kerala جنوب الهند ، وقد حققت مبيعات هائلة ، ما دفع الناشر لمعاودة طبعها 250 مرة . شركات إنتاج سينمائي هندية و أميركية ساهمت في تمويل ميزانية الفيلم ، واستغرق تصويره نحوا من خمس سنين تنقل فريق العمل خلالها بين مواقع تصوير شملت وادي رم بالأردن ، وأماكن بصحراء الجزائر، إضافة لولاية كيرالا التي ينحدر منها “نجيب” الذي قذف به حظه العاثر بين يدي رجل سيئ الطباع ادعى أنه (كفيله) حين التقاه عقب وصوله ، بأحد المطارات السعودية . لن أناقش هنا موضوع (حياة الماعز) ، و لا الغرض منه ، أو بواعث إنتاجه و لا حتى المسائل الفنية ذات العلاقة بالقيمة البصرية للفيلم . سأتوقف فقط عند ما أظهره السيد “سوكوماران” من براعة في تشخيصه مواطنه “نجيب” الذي وقع بين يدي (كفيل) لم يرقب فيه إلا و لا ذمة ، و سامه سوء العذاب في بلقع من الصحراء حتى إن الرجل كاد يفقد آدميته تماما و يلحق بالقطيع لا كراع للماعز و إنما واحدا من الجديان . هذه الإجادة وهذا التقمص و إن ساعد عليه كثيرا تقنيات التصوير ومكملات الملابس وديكورات المكان ومقاطع الموسيقى والمؤثرات السمعية والبصرية وفوق ذلك حبكة السيناريو ، وتعليمات الإخراج إلا أن أداء “نجيب” الممثل ، وتعبيرات وجهه وانفعالاته (حتى الداخلية منها) ، والتصاعد المحسوب للحالة الدرامية في أدائه أمام عدسة التصوير ، هو ما جعله يقوم بهذا الدور بذاك القدر الكبير من الاحترافية و الإتقان وهي مسألة ما كانت لتتأتى بمجرد اطلاعه على قصة الفيلم وحفظه لنصيبه من الحوارات و
لا حتى لمجرد تعاطفه مع مواطنه “نجيب” الحقيقي ، الذي عاش التجربة ، و كابد فصولها بجهة (حفر الباطن) جنوب شرق السعودية مطالع التسعينات من القرن الماضي . و في السياق ذاته ما كان لبطل الفيلم ، قطعا أن يكتسب احترافية وإتقان دوره في دقائق التلقين الأخيرة أمام الكاميرا أو حتى أثناء فترة الإعداد التي سبقت الشروع في التصوير الفعلي للمشاهد والسيد “سوكوماران” ما كان ليتلقى دروسا في التمثيل حين وصوله (اللوكيشن) فالسينما ليست معنية أصلا بتكوين الممثل ولا تبذل جهدا يذكر في إعداده وتنمية ملكاته و صقل موهبته .. السينما تأخذ الممثل (على الجاهز) حسب التعبير الشائع . السينما تعتاش على ثمار عمل المسرح وجهوده والمسرح هو الجهة التي تساعد الممثل على إطلاق كوامن مواهبه لحظة لقائه المباشر بالجمهور و بعد أن يكون قد عمل على تدريبه على ضبط حركاته ، وعلى التحكم في انفعالاته و تقويم اللغة و مخارج الحروف لديه و تعميق قدرات إحاطته بالحالات النفسية إضافة لتعويده على الحفظ و الاستذكار وعند الذروة فصل شخصه عن شخصية الدور الذي يلعبه ، فلا يعود ممثلا بل يصبح أصل الشخصية لا صورة عنها حتى و إن وصفت بكونها صورة طبق الأصل و يضاف إلى ذلك التدريب الجسماني و اللياقة البدنية . ولا يقوم المسرح بذلك منفردا بل إن ضربة البداية إن جازت العبارة تتم في المراحل الدراسية الأولى و حتى فيما قبلها في أركان البيت و تحت أنظار الأبوين و تشجيعهما ، و يعد النشاط المدرسي هو الحاضنة الأولى و الأكثر أهمية ربما للمواهب والملكات والميول وكل التوجهات المبكرة نحو الفنون بصنوفها وتجاه الثقافة و الآداب و حقولهما ، بوجه عام . إن معين السينما لصناعة نجوم الشاشة هو المسرح . ومعين المسرح من المواهب وذوي القدرات والرغبة و الشغف هو النشاط المدرسي و يشكل البيت والوالدان حجر الزاوية في كل ذلك وغير بعيد عن هذا السلم المتعاضد الدرج كل ما يمكن أن يصنعه المجتمع من أرصدة في مجالات الآداب والفنون والثقافة والصحافة والنشر وفي ميادين السياسة وإعداد القادة و توجهات الرأي العام . لقد أدمت قلبي صرخة الأكاديمي والباحث المرموق .. د . الناجي الحربي ، ودعوته ، أن تتنادى الثلة التي ذكرها في إدراج (فيسبوكي) أشبه بنداء استغاثة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من اللغة على ألسنة (كبرت على عياب) ، وبمحتوى برامجي وقع في برميل للإسفاف بلا قاع حسبما رآه في عديد القنوات ووسائل الإعلام و خرقت حدود الصوت عند أذني صرخة الناقد المختص و الأكاديمي الباحث المجيد الدكتور . نور الدين سعيد . إن فساد أخلاق المجتمع ومؤشره المؤرق ما نشهده من فساد النخبة مرده تدني مستوى الاهتمام بالفنون و الآداب . إن ذلك و في ضوء التراجع المريع للمسرح والسينما والجمود المريب للنشاط المدرسي وفتور الاهتمام الأسري عن تشجيع الأبناء على الانخراط في النشاطات ذات العلاقة بالثقافة و الفنون والآداب لن يجعل لحياتنا من وصف يناسبها عدا كونها ” عيشة معيز “.
■ بشير بلاعو