لم يعد بمقدور عيناي مصافحة وجه البحر،على النحو الذي كان قبل أن تتكوم عند زاوية النظر من غرفة نومي ، تلال تراب متراصة ، جراء إعمال أسطول للحفر والكشط والقص و القلع ، أسنانه ، حتى عمق عشرات الأمتار ، فينتهك بكارة الأرض ، ابتداء من أطراف مدينة صبراتة الأثرية ثم إلى الشرق منها بنحو عشرة كيلومترات ، و لا يرده جنوبا سوى ما يعرف بمنطقة الوادي حيث يضمحل شريط الحجر الجيري الذي مثل طويلا برزخ حجز المالح عن العذب ، و لكنه اليوم لم يعد يقوى على منع أن ينغمس حلقك في لجة البحر مع كل شربة ماء تدرها أثداء الأرض . حمى الذهب الأبيض ، حسبما اصطلح على تسمية النزوع الشره الذي استشرى بين طائفة من الليبيين في (مقاطع الحجر) لم يتوقف زحفه حتى أتى على كل بقعة من الساحل الممتد لنحو ألفي كيلومتر ، يشتبه أن تكون منجما للحجر الجيري ، الذي يعد القاسم المشترك الأكثر حضورا في بناء كل بيت في ليبيا ، تقريبا ، منذ أن تم التخلي بالقرى والمدن عن البناء بنظام (ضرب الباب) الذي كان يستخدم الطفل و الطين في وضع الأسس و تشييد الجدران ، و توقف النجوع عن الحل و الترحال ، ولقد كنت ، لبضع سنين من عقد الستينات من القرن الماضي ، من سكان (مقطع الحجر) حي (الظهرة) الأشهر ، تقريبا ، بمدينة طرابلس ، و كان هذا (المقطع) قد استنزف تماما ، حتى قبل بدء حملة تقويض مدن الصفيح التي كانت سياج قبح لطرابلس و غيرها من المدن الليبية ، جراء النزوح الكثيف للبدو ، و أبناء الريف ، نحو مراكز العمران التي انتعشت أحوالها المعيشية ، و صارت خيالات مدن ، بفعل اكتشاف وبدء تصدير شحنات خام (الذهب الأسود) . قد لا أكون أقل ميلا للرأي القائل أن اقتلاع الحجارة من كبد الأرض ، في شتى أنحاء ليبيا ، و على نحو خاص بمحاذاة ساحلها البحري ، هو عمل له مسحة أخلاقية لدى الذين عاشوا و عايشوا كيف كان طعم الحياة مزريا تحت سقوف الصفيح الخالص و بين جدران مطعمة في أحسن أحوالها بقطع الورق المقوى و لكن هل كان من الحكمة أن ننزع ما بنته يد الطبيعة من حواجز ، وأستار بين ماء البحر الأجاج و ماء المائدة العذبة ، فنعرض مقومات الحياة كلها للانقراض .. لا أن تكون مزرية وحسب . و مع ثبوت أن ماء البحر ماض ، بلا رادع في النفاذ قدما إلى مدايات أبعد تحت سطح الأرض ، فإننا إن آجلا أم عاجلا سنقف عيانا على نتيجة التعدي الصارخ على مقاصد الآية القرآنية الكريمة بسم الله الرحمن الرحيم .. “وجعلنا من الماء كل شيء حي”. خلال النصف الأول من عقد التسعينات من القرن الماضي بمبادرة من الجمعية الليبية للأحياء البرية ، و دعم (اللجنة الشعبية العامة للزراعة) حينذاك .. قدمت و الزميل المصور المخرج “سعد عقيل” فيلما يتناول ما يحدق بليبيا من مخاطر ، جراء استشراء ظاهرة التصحر، فتكشفت لنا الكثير من الحقائق الصادمة ، التي تفرض واقعا مريرا على الرقعة الزراعية بسهل الجفارة ، و بالسهول الوسطى و الشرقية من ليبيا و ذلك بسبب معدل التمدد السنوي المرعب لمياه البحر داخلها ، ومن المؤسف حقا أن ما صار يتشكل بباطن الأرض من تهديدات لحظة بلحظة للحياة فوق سطحها ، إنما يتفاقم و بلا توقف بأيدي أولئك الذين هم معنيون بأسوأ وجوه كارثيتها ، وحتى إن لم تكن هناك إحصاءات رسمية دقيقة وموثقة بالخصوص ، فالمرجح أن آلاف الثقوب تضاف سنويا للمنخل الذي نعيش عليه ، سواء بامتداد الشريط الساحلي ، أو بمدن وواحات أطراف و عمق الصحراء ، و يضاعف مأساوية استنزافنا اليومي لما تبقى من مياه جوفية تحت ستار متطلبات الاستخدامات الحياتية ما تقوم به الأيدي العاملة الوافدة ، و على نحو خاص من أشقائنا المتعلقين بثقافة (الغمر) المرتبطة بوادي النيل الدائم الجريان كأسلوب أمثل لري المحاصيل . من مفارقات ما صادفنا أثناء التنقل بين مواقع تصوير الفيلم الذي نوهت عنه أعلاه أننا غداة أن كنا بالطريق نحو منطقة (بشر) قرب (البريقة) لاستطلاع أثر استخدام أصناف من المشتقات النفطية في تثبيت الكثبان الرملية ما ساعد على تشجيرها بلغنا أن 80 ثمانين شجرة من السرو المعمر بغابة (تليل) شرق (صبراتة) تم قطعها ، تلبية لمتطلبات توسعة ملعب كرة قدم ، لم تساعد الظروف المتعاقبة على تنفيذه ، حتى اليوم . لقد تم جز رقاب و سوق الأشجار الثمانين بدم بارد رغما عن كونها محمية أمميا بموجب أعراف غرسها ، فقد كانت ضمن ما تم استزراعه من غابات صنوبرية في أنحاء من ليبيا في إطار برنامج أممي للغابات قامت عليه خلال خمسينات القرن الماضي أجهزة مختصة بمنظمة الأمم المتحدة للأغذية و الزراعة (الفاو) ، و لعل ما جرى بصبراتة كان مقدمة لجريمة أشنع ، تمثلت في استئصال شبه تام للجهاز التنفسي لمدينة طرابلس الكبرى ، كلها ولحساب شعار باهت بائس مفاده الاكتفاء الذاتي أبيدت مساحات شاسعة من المحيط الشجري لعاصمة البلاد . و إذ نقف اليوم على بعد ما يجاوز الثلاثين عاما من أعمال السيف بأول شجرة من غابات جنوب طرابلس و شرقها لا يبدو أنها استبدلت إلا بغابات إسمنتية قاحلة ، و بامتداد المسافة ما بين أطراف العمران حتى (قصر بن غشير) جنوبا و إلى ما وراء (تاجوراء) شرقا تتعدد أسواق فارهة عملاقة تتوفر على كل شيء ، تقريبا بما في ذلك غلال بساتين الجيران ، غربا و شرقا ، و حتى غلال في غير مواسمها من أوربا ، وبلدان أميركا الجنوبية ، وهي ذات الغلال التي كان ينتظر أن تجود بها ملكيات الاكتفاء الذاتي حول طرابلس أما الجزر ، (السفناري) فيجيئون به من تركيا .
■ بشير بلاعو