قلة قليلة فقط من الليبيين ، في الوقت الحاضر ، من هم على دراية بما يكفي بتاريخ و تطور الصناعات التقليدية الليبية و الأقل منهم ربما من هم على علم بأن معارض ثابتة ، و أخرى متنقلة ، وغيرها موسمية كانت تقام بأشهر مدن أوربا ليتاح لمتساكنيها التعرف على إنتاج السواعد الليبية ، و إن بطرق يدوية متوارثة و النظر في إبداعات الذائقة الفنية لطائفة من أجدادنا و جداتنا الذين لم يكونوا ، بأي حال من الأحوال على تماس مباشر ، أو غير مباشر بأي من مدارس الفن التشكيلي ، و لم تطأ أقدامهم أروقة تعليم الرياضيات و الهندسة أو أي من العلوم التطبيقية ذات العلاقة بالتصميم و التفصيل و الزخرفة و التلوين و مع ذلك فإن ما كانوا يعرضونه من ألبسة و أدوات هو بمثابة قطع من الفن الأصلية التي يمكن أن تجود بها حرفة الصناعة . و تقول المصادر ” إن معرض باريس ، الذي أنتظم بالعاصمة الفرنسية أثناء العهد العثماني الثاني و تحديدا سنة 1851 ؛ كشف عما بلغته الصناعات التقليدية الليبية من تقدم و جودة و أن معظم تلك الصناعات أعطت صورة لا تخطئها العين عن واقع إبداعات الحرفيين الليبيين في هذا المضمار . الاحتلال الايطالي أيضا ، و بمجرد أستتباب الأمر لسلطته بالأراضي الليبية مطالع الثلاثينات من القرن الماضي عاود الاهتمام بهذا القطاع و أقام له المعارض بكثير من المدن الايطالية بل و العواصم الأوروبية ، أيضا و في عام 1938 عبرت الصناعات التقليدية الليبية المحيط الأطلسي لتتوزع نماذجها في ردهات معرض خاص بنيويورك في الولايات المتحدة الأميركية و الأكثر من ذلك أن الإيطاليين ، على نحو خاص ، لم يتوقفوا عند النظر لما تقدمه الأيدي الماهرة للحرفيين الليبيين على كونه منتجات صناعية ، و إن قل فيها حتى حدود دنيا استخدام الميكنة و إنما بوصفها أيضا من مكونات عالم الفنون الجميلة و في سلسلة مقالات نشرتها صحيفة ، MESAGGERO عام 1932 يقول الناقد ((scaparro)) إن الصناعات التقليدية الليبية أسهمت في دفع الحرفيين الإيطاليين و تحفيزهم على تحسين إنتاجهم و تطويره و وصف بعض متذوقي الفنون تلك الصناعات بكونها تحتوي على تكنيك فائق و مفعم بالشعور الهارموني و ذات عناصر ، و أشكال مزدانة بزخارف نباتية و هندسية و مركبة أحيانا فيما بين النباتي و الحيواني تبعث على الدهشة . منتجات الصناعات التقليدية وككل الحرف اليدوية هي محض نتاج جهد خاص يبذله ” المعلم” أو ” العرف” بتضافر سواعد و مثابرة و إخلاص” الصنايعية ” ، و تتوارثه الأجيال على نحو رأسي في العائلة و في ” الكار” كما يقال و لذلك لم تول خيارات القطاع العام ، عقب تبدلات (سبتمبر 69) اهتماما يذكر لإسناد الصناعات التقليدية التي كانت تترنح أصلا بفعل الهجوم غير المسبوق ، الذي شنته بواخر استيراد الملابس و الطنافس و البسط و الأحذية ، و الصنادل على الموانئ الليبية من دول أوربا و شرق آسيا بعيد تصدير أول شحنة نفط مطالع الستينات ، و حتى برنامج إرساء قاعدة صناعية حديثة على نحو ما كان يتم الحديث عنه بدءا من تشكيل الوزارة الثانية التي ترأسها الراحل (معمر القذافي) نفسه ، و أوكلت وزارة الصناعة بها لمن شاع أنه أقرب مقربيه ، حينذاك ، (عبد السلام جلود) ، و إيفاد المئات ، تقريبا ، من الشباب إلى الخارج لتكوين قاعدة واسعة من الفنيين المهنيين و المشغلين المحترفين ، إلا أن شيئا من سوء التخطيط أو القصد و التعمد ، أفضى لأن تبنى مصانع بدت كما لو أنها جعلت خصيصا لمنافسة القدرات الوطنية التي تربت في حاضنة الصناعات التقليدية فالغدامسيون مثلا توقفوا عن تزويد أرفف و واجهات العرض التي ظلت تقاوم الإغلاق بسوق المشير ، و ما حوله بما ذاع صيت حرفييهم فيه من منتجات الصناعات الجلدية ، و قد جاء ذلك كنتاج مباشر لافتتاح مصنع للأحذية بجوهرة الصحراء كان يراد له أن يعزز قدرات (راتا) التي أتخذ لها هذا الاسم كوعد بمنافسة (Bata) في مجال صناعة الأحذية و المنتجات الجلدية و في السياق ذاته تم الاستيلاء على مصنع (بن سعود) للأردية ببنغازي الذي شيده مالكوه من رحم مشغل نسيج لصناعة اللباس النسوي الأشهر تقاليديا في ليبيا وإن كان هذا الأمر تحديدا قد تم لاعتبارات قد تنحو لكونها أيديولوجية ، وربما كانت الاعتبارات الأيديولوجية هي التي وقفت وراء إيفاد سلاح الهندسة بالقوات المسلحة الليبية أوائل الثمانينات لتفجير أضخم مجمع للتدريب على الصناعات و الحرف التقليدية في حوزة الزاوية السنوسية الأشهر بواحة الجغبوب و على نحو متعاكس مع ذلك كله ، ظل (معمر القذافي) الرمز الأوحد لأعلى سلطة حاكمة في البلاد ، يقدم الصورة الأكمل ، تقريبا ، للرجل المتمسك بارتداء الملابس التقليدية لشعبه ، حتى بدى له أن يضع ” الجرد ” جانبا لحساب ما رأى أنه يشير على نحو أوضح لكونه صار من ملوك إفريقيا . من غير الموضوعي ، قطعا ، تعليق كل ما حاق بالصناعات التقليدية الليبية على مشجب واحد ومن دون أدنى شك ، فإن سلة ما تكدس بطريقها من معوقات تعج بالعوامل و الأسباب بل و تتداخل حد أن يحار الباحث بأيها ينبغي أن يبدأ ، و إلى أيها يمكن أن ينتهي ، و لكن ما لا يمكن إغفاله ، أو القفز عليه ، هو أن لباسنا الوطني ، و بكامل مكوناته ، للجنسين ، الذي يشكل العنصر الأساسي في مفردات الصناعات التقليدية ، تم تسليم تصنيعه للصين ، و بعض ما جاورها من بلدان شرق آسيا ، و من غير المنتظر طبعا أن يقوى الحرفيون الليبيون على المنافسة في ميدان الكم ، و الأسعار لا سيما في ضوء تراجع الاهتمام بقيمة الجودة ، و التنازل عن دقة عمل الأيدي الماهرة لحساب سرعة إنجاز الماكينات النهمة ، و تضاف إلى ذلك ما طرأ و لاعتبارات عدة من تغيرات حادة على مسألة الذوق ، بمستوييه ، العام ، و الخاص ، ولا أدل من ذلك على ما تراه من المرأة الليبية التي تخضب كفيها بحناء (سوق الجمعة) و تضع على جسدها أسمال (قندهار) ، حتى إني لأتساءل إن شاب ذائقة دور أزياء (تورا بورا) ما يجعل لتلك (الغرابيب) السود فتحات تبدأ من حيث ملامسة الكعبين و تنتهي عند اقتران الساق ببقية الجسد ، فما الذي ستجده ” رقية ” و أخواتها غير (الفراشية) من لباس يراعي اشتراطات الذوق ، و ملاءمة متطلبات المناخ ، و تأكيد المزايا الأنثوية و فوق ذلك مقاربة ما يمكن وصفه بحزام العفة الشرعي الذي تبدو طائفة غير قليلة من الرجال الليبيين يلزمون به نساءهم فيما هم يسيرون على مبعدة ما يكفي من الأمتار منهن ؛ لرفع الحرج عن أعينهم السائحة في ملكوت ما يصادفهم من جمال و جميلات حالمين بتجريدهن حتى من أوراق التوت .
■ بشير بلاعو