هذا هو أبرز الذي أزعم ، و معظم أبناء جيلي من قراء الصحف السيارة ، ما كنا نبحث عنه من عناوين في ثنايا ورق المطابع الذي كنا نطالعه بمعدل إن لم يكن يوازي ، فهو قد يفوق ما كنا نبذله لصفحات الكتب والكراريس التي تقرر دوريا في مناهجنا الدراسية. كانت عناوين الأخبار والمقالات والتقارير والمقابلات والاستطلاعات تقفز إلينا مع أسماء محرريها وكتابها وضيوفها وأبطالها، ضمن إجابات من ، ماذا ، لماذا ، أين وكيف ، ومرفقة بصورهم في معظم الأحيان ، أما أين تذهب هذا المساء ، فكنا نحن من يبحث عنه من دون توقف، حتى يطالعنا في زاوية ما بإحدى الصفحات الداخلية ، و ربما أرجئ حتى ركن قصي بالصفحة الأخيرة ، و برغم أن ما كان يتصدره ذلك العنوان لا يذيل باسم كاتبه ، فقد كنت ممن يشعرون بامتنان كبير لذلك الذي كان يؤثث أمسياتنا بشيء غير مقارن من البهجة ، ولاسيما حين بلغنا من العمر ما صار يسمح لنا بالبقاء خارج البيت حتى قبيل رفع آذان العشاء. لقد كان صاحبنا، الذي لم نعرف ، يوما ، له اسما ، يجتهد أيما اجتهاد، أو هكذا نقدر ، ليجلب لنا ما كانت تعرضه شاشات السينما ، على نحو خاص ، في أرجاء طرابلس ، وفي كل المدن الليبية ، التي لم تكن تخل من دار للعرض السينمائي ، أو أكثر ، وكنت في طرابلس ، وحدها يمكنك أن تحصي ما قد يزيد عن عشر دور منها وأكاد أجزم أن من القراء من طفق اللحظة يستعرضها في ذاكرته، فيردد أسماءها في سره ، و يستذكر منها تلك التي كانت تمنع دخول من كان حينذاك في مثل سنه ، والتي تشترط عليك لولوجها قيافة كاملة ولكن عملها مجتمعة بنظام تدوير العروض كان يقفز بنا عن عقبتي السن و القيافة ، فإن فاتك مشاهدة فيلم بإحداها، فلن تعدم أن تجده يعرض بأخرى لاحقا وكانت مجتمعة أيضا رافدا غنيا يثري مصادر المعرفة ويجدد دفق مناهل الثقافة. لقد حملتنا السينما إلى بلاد لم نكن لناطها حتى بعد أن صارت لدينا جوازات سفر، لقد تعرفنا على الغرب المتطور الباسم الحالم ، وعلى ” الغرب المتوحش” لقد توهجت نفوسنا بمشاعر القومية مع ” جميلة بوحيرد ” وفي “بورسعيد”، لقد وقفنا على حادثات و تحولات تاريخية هائلة ، ذات مسحة دينية ، في ” الوصايا العشر” و “الرسالة” وتاريخية أسطورية ذات عبق إنساني مع “غاندي” و “مانديلا” و”سبارتاكوس” و ” لمن تقرع الأجراس” .. ولولا “أسد الصحراء” لظللنا ندين بالفضل كله فقط لأحمد شوقي ، في مقاربته الإبداعية لبطولة ونضال شيخ المجاهدين ” عمر المختار “. وسواء كانت السينما فنا بحد ذاته ، أم من منتجات الفنون، فالمؤكد أنها من ضمن حقول المعرفة والثقافة و الإبداع التي هي بمجملها عنصر فائق الأهمية في مكون القيد الأخلاقي على النفس البشرية النهمة فقط لعشق الذات و حب البقاء و لكون ذلك القيد تحديدا ما يكسب الحياة الإنسانية معنى أسمى بإخصابه حدائق الروح.. وبهذا المعنى ربما كان على مخططي) إعادة الإعمار و مشاريع (عودة الحياة) بحملاتها اللاهثة وشعاراتها الموحية وعلى أهميتها التأكد من أنها سوف لن تفضي ، فقط لسد آفاق المدن وطحننا معها تحت عجلات الحياة .
■ بشير بلاعو