لم يختلف الأمر كثيرا أن كان المحاضر هو «جمعة الفاخري« ، الذي تجشم عناء الرحلة من إجدابيا إلى بنغازي ، برا ثم جوا ، إلى طرابلس ليحدثنا عن الشاعر الشعبي الشهير و المفوه «حسن لقطع« ، غزله ، و هجاؤه ، وطرائف علاقاته ، و سوء حظه مع النساء ، و بن كونه «رضا بن موسى« الذي يمكن أن يفد ، ماشيا ، إلى (حوش محمود) أو مسرح القبة الفلكية ، فيقرأ في نصوص أساطير القصة ، والرواية ، والشعر ، منذ غابات و سهوب و جبال و مرافئ أميركا اللاتينية ، حتى مدن ليبيا ، المشاطئة للمتوسط ، و التي في عمق الصحراء ، و لا يختلف ، أيضا ، إن كان على المنبر «الحصادي« أم «بوشناف« أو « القائد« أو «القمودي« أو «بازامة« أو «المقهور« ، فالجمهور الجالس قبالة المتحدث هو نفسه ، بل ويمكن إحصاء عدده ، وحتى إلقاء التحية على كل الجمع ، مصافحة ، من دون عناء ، و مع حفظ الألقاب ، و بغير ترتيب فهم / عتيقة ، المزداوي ، بن منصور ، محفوظ ، سبيطة ، المدني ، طريبشان ، الدنقلي ، الجواشي ، الفنادي ، الطاهر ، مازن ، درويش ، المريض ، العباني ، بشيوة ، الباروني ، الأسطى ، الداهش (أحيانا) و العالم (لماما) و الغزال ، و الطويبي ، متى سمحت الظروف ، و إن كنت لم أغفل عن اسم أحد آخر ، فإن هذا الجمع الكريم هو ، فقط ، الزخم الثقافي لكل مدينة طرابلس بكل متساكنيها الذي قد يجاوز المليوني نسمة ، و هو أيضا ، من يصنع الحدث ، و من يدعو نفسه لحضوره ، و التفاعل معه ، حتى وإن أصر المنظمون على إبراز « الدعوة عامة « في صدر الملصق ، و هو ، و منذ عشرية كاملة أو يزيد بتقديري لم يتجدد ، بل إنه إن فقد أحدا منه لم يعوضه ، و ما يزال مقعدا الراحلن الكبيرين ، إبراهيم حميدان و مرعي التليسي مث شاغرين . ولست على خف اا مع القول أن أمسية شعرية ، أو قراءة نقدية ، أو افتتاح معرض للفنون التشكيلية ، ينبغي له حضور جمهور مباراة كرة قدم ، إن الثقافة كما في معظم أو حتى جميع بلدان العالم ، هي شأن نخبوي على الأغلب ، و لكن أليست النسبة الغالبة من أكاديميي كليات الفنون و الآداب و العلوم الإنسانية بوجه عام طلابا و هيئات تدريس ، هم من تلك النخبة ، ألم تكن طبيعة الاهتمام الذي قاد خطاهم نحو تلك الكليات و المعاهد ، هو كناية عن انشغال مبكر بالشأن الثقافي ، ثم أنهم لاحقا سينخرطون في مهن هي أقرب لعوالم الثقافة و الآداب و الفنون ، أو ليس الوزراء و النواب ، و رؤساء الأحزاب و السياسيون بوجه عام ، هم من جملة مثقفي البلد ، بل و ينبغي أن يكونوا طليعة مثقفيه كجزء من مقومات الشخصية القيادية و جانب مهم من متطلبات الوظيفة و المنصب . أليس ترفا ظاهرا ، و من غير المجدي ، أن تكون لدينا وزارة للثقافة ، في حن أن نحوا من عشرين شخصا ، فقط ، من الجنسن ، هم من يصنع الشأن الثقافي كله و بكل علاقاته وكافة تفاصيله في عاصمة البلد و أكبر مدنه و أكثرهم كثافة سكانية . مساء الأربعاء الماضي (5 يونيو) و بعد أن قدم الدكتور ، علي الهازل ، بما يليق ، و يستحقه ، المحاضر الأستاذ الباحث ، « جمعة الفاخري « ، طلب إذن الحاضرين بمسرح مركز المحفوظات و الدراسات التاريخية ، و جلهم ممن جئت على ذكره آنفا ، أن يفتتح اللقاء الدكتور ، محمد الجراري ، رئيس المركز ، بكلمة للتنويه باليوم العالمي للتوثيق الذي صادف ذلك اليوم ، فاستهل حديثه بلهجة المشتكي المغتاظ من أن ثلة من الشباب ، في معرض نقاش ، أداروه معه قبيل ولوجه المركز ، لم يتورعوا عن نعته ، و من هو في مثل سنه ، بحجر العثرة في الطريق و جاء على لسانه ما نصه تقريبا ، (قالولي إنتم كمشة شيابن ي قاعدين تشدوا فينا للخلف) .. فإذا كان المشهد الثقافي الليبي بهيئته القائمة يبدو طاعنا في السن ، فإن القول الذي وجه للسيد ، الجراري ، إنما ينذر بإعن وفاته ، و من دون حتى أدنى اشفقة عليه.
■ بشير بلاعو