(مسرح صبراتة هو أكمل نموذج ، في العالم ، للمسرح الروماني نصف الدائري ، هذه الحقيقة لا تقررها المصادر التاريخية وحسب، وإنما يعكسها ، أيضا ، وضع الحال القائم منذ أكثر من ألفي عام. وحن تلج قدماك هذا الصرح العتيد فإن أول ما يستثيرك من أسئلة يدور حول ماهية النظريات الهندسية التي انتهجها المخططون ، وطبيعة أساليب التشييد التي اتبعها البناؤون ، ونوعية ما تم استخدامه من وسائل ومعدات ، في زمن لم يظهر أنه شهد اختراع الرافعات العماقة ، وما في حكمها من لأدوات تشييد وبناء) هذا نص مفتتح مقدمة الطالبة “انتماء” لمشروع تخرجها من قسم العمارة بكلية الهندسة في جامعة طرابلس ، قبل نحو من عامن ، وقد بعثت بنسخة منه لصديقتها “ضحى” بنتي ، فأطلعتني عليه. تقوم فكرة المشروع على تصور لإنشاء (مركز استقبال لزوار مدينة صبراتة الأثرية) وقد اتخذت له موقعا على ساحة مسفلتة تقع مباشرة قبالة بوابة المدخل الرئيس والوحيد للمدينة التي تضم بعضا من إرث الحضارة الرومانية في كل حوض البحر المتوسط . لقد اجتهدت ” انتماء ” ، وبذلت كل ما أوتي لها من تحصيل علمي ، وخيال ، يقبله العقل والمنطق ، في جعل المشروع قابا للتنفيذ ، محققا لأغراض استخدامه، مراعيا للمتطلبات والمعايير القياسية ذات العلاقة ، ومع إرفاق كافة التصميمات الهندسية والخرائط الإنشائية، تضمن ملف المشروع صورا ومقاطع مبتكرة وثاثية الأبعاد للواجهات والباحات الخارجية وقطعا ، للقاعات والغرف والمرافق والفضاءات الداخلية، واختتمت صاحبة المشروع نصها التقديمي بالقول : (لعل هذا المشروع الذي نضعه بن أيديكم ، هو بمثابة أول قطرة غيث الاهتمام الجاد ، ونفحات المسئولية ، نحو تاريخ أسهم أسافنا في صنع قناديل نوره، ويلزمنا واجب الانتماء بالعمل على زيادة إشعاعها) .. وأجيز المشروع بمعدل تقدير مرتفع ، ولكن خاب رجاء “انتماء” ، كما خاب أمل الأستاذ المشرف ولجنة الممتحنن و كل أهالي صبراتة ونحن جميعا من ورائهم ، فقد ظل مشروع المركز حبيس أدراج أرشيف كلية الهندسة ، كغيره من عدد قد يقدر بعشرات الآلاف من المشاريع التي اجتهد الطاب والأساتذة في ابتكارها ، وتصميمها ، وتنقيحها ، وتطويرها، حتى صارت رؤى قريبة المنال لأحام كبيرة، وعلى مرمى قرار واحد من تحقيقها ، ولو أن جهة ما ، مخولة بالنظر في محفوظات الكليات الجامعية و المعاهد العليا في ليبيا ، فنقبت في أدراجها، لعثرت ، ربما ، على ما يوازي أضعاف ما يمكن أن يحدث النقلة التي ما يزال الليبيون يتطلعون لأثرها في كل حياتهم طوال السبعن ي عاما التي مرت منذ إعان الاستقال . ل ولكن ، وحتى لا يظل الكام با معنى ، ل فسأحيل القارئ الكريم على أول نشرة أحبار بتلفازه الملون، إذ لن تعدم أن تتضمن ، وقد تتصدرها مشاهد جموع طاب الجامعات في أميركا ، وفي دول أوربية ، وهي تتظاهر، وتعتصم، وتغلق الميادين والشوارع ، احتجاجا، على حرب إبادة غزة ، ورفضا لاستمرار عاقات ل التبادل ، والتعاون العلمي والبحثي ، والاستثمار الاقتصادي لجامعاتهم في المشاريع والمؤسسات الإسرائيلية ، وذات الطابع العسكري منها، على نحو خاص. ومن دون إغفال القيمة الأخاقية ل لهذا الحراك النضالي الإنساني ، فإن المسألة تكشف أيضا عن حجم التفاعل الذي يكتنف عمل تلك المؤسسات الجامعية مع محيطها فيما وراء البحار ، فما بالك بمحيطها المباشر، وبيئتها المحلية ، فمتى سنشهد حراكا طابيا ل لدينا ، يضغط على الأجهزة والدوائر الرسمية ذات العاقة ، لتأخذ على محمل الجد أن ل جهودهم ، وعصارة فكرهم، وثمار تحصيلهم العلمي، إنما هي من أجل تنمية الوطن، وتحقيق نهضته ورفاهية أبنائه ، لا من أجل توسعة قاعات الأرشيف الجامعي، وزيادة رفوف محفوظاتها. حتى متى ستظل الساحة الإسفلتية قبالة مسرح صبراتة الأثري تطحنها عجات الفراغ والتهور ، وحتى استخدامات أخرى قد يسوء ذكرها .
■ بشير بلاعو