مقالات

أسبوعيات

منطقة التماس واستراتيجية الاستدراج

الأوضاع السياسية فيما أُسميه “منطقة التماس” ضمن ما يعرف بمنطقة “الشرق الأوسط” والتي تأتي في نطاق ما أسماه “برجنسكي Brzezinski ” مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق في عهد الرئيس الأمريكي جيمي كارتر (1977-1981)، بمنطقة (قوس الأزمات The Arc of Crisis) فإن الحديث عن الأوضاع السياسية في تلك المنطقة لا يمكن أن يتم بمنأى عن الحديث عن السياسات والاستراتيجيات الدولية في منطقة التماس، وإذا قرأنا ذلك بتمعن يمكننا تقييم الأحوال في المنطقة وما يمكن أن يكون عليه المستقبل . إن واقع المنطقة يعتمد بشكل مباشر على مجريات حركة السياسة الدولية، وعندما نتحدث عن السياسة الدولية فإن دول المنطقة وبكل الواقعية والموضوعية لا تشكل – أو هكذا يراد لها أن تكون – أكثر من مناطق لأطماع السياسة الدولية . وعندما يشعر الفاعلون في السياسة الدولية – وهم الدول الكبرى التي تكونت نتيجة الصراع خلال فترتي الحربن العالميتن الأولى والثانية، المنتصرون والمنهزمون على حد سواء – عندما يشعرون بأي بوادر لتهديد مصالحهم فإنهم يتحدون لمواجهة تلك المخاطر ويخططون سويًا لدرء تلك المخاطر. وعلى هذا الأساس تشكّلت خارطة العالم بن منتصرين متنافسن بعد ذلك فيما بينهم، فكانت القطبية الثنائية بن القوتن العظمتن: الولايات المتحدة الأمريكية التي تقود المنظومة الغربية المتبنية فلسفة الليبرالية من الناحية السياسية ونظرية السوق من الناحية الاقتصادية، والتحالف العسكري الذي يجمع السائرين على نهجها متمث اً في حلف شمال الأطلسي ،NATO وبالمقابل كان الاتحاد السوفيتي (سابقًا)، حيث الفلسفة الماركسية والدعوة الاشتراكية في نهجيها السياسي والاقتصادي، والتحالف العسكري المتمثل في حلف وارسو Warsaw Pact .ورغم ظهور تيار وسط (حركة عدم الانحياز Non-Aligned Movement) إلا أنّ عدم الانحياز لم يخرِج أعضاؤه من التأرجح بن تجاذب القطبن . وهكذا اجتمع المنتصرون والمنهزمون وبدأ التنافس والصراع في جمع دول العالم في فلك كل منهما . ومع احتدام الصراع تحت مظلة الحرب الباردة والتي سعى كل من المعسكرين للقضاء على المعسكر الآخر والتي امتدت منذ أن تأسس حلف الناتو 1949 لتنتهي معالمها بسقوط وانهيار منظومة الاتحاد السوفيتي عام 1991 . عندما تولى ميخائيل غورباتشوف رئاسة الحزب الشيوعي السوفيتي عام 1985 أعلن عن سياسته الإصلاحية التي عُرفت بال”بيريسترويكا Perestroika ” التي قوامها إعادة الهيكلة والبناء التي صاحبتها سياسة الشفافية أو ما يعرف بال”غلاسنوست Glasnost ” التي أدت إلى تفكك الاتحاد السوفيتي، وهكذا دخل العالم مرحلةً جديدة تسارعت خطواتها بن الأحادية القطبية، فتعدد القوى بدخول الصن كمنافس أكبر يمتد بنفوذه الاقتصادي في أنحاء العالم وعودة روسيا لتجميع قواها العسكرية والاقتصادية وبرنامجها السياسي التوسعي، إلى جانب الاتحاد الأوروبي وعودة المملكة المتحدة بعد إعلان انسحابها عن (الاتحاد الأوروبي Brexit 2020) م لتشرع في الامتداد من جديد. أما منطقة التماس وهي المنطقة التي تشهد عديد الصراعات السياسية في عموم المنطقة وظهور قوى إقليمية تتنازع قيادتها وعلى رأس ذلك تأتي إيران كقوى عقدية وقوة عسكرية تطمع في قيادة المنطقة، ودولة الاحتلال (إسرائيل) التي تشكل أكبر القوى العسكرية في المنطقة بما تحظى به من دعم من المنظومة الغربية، وهي تحتل الأراضي الفلسطينية منذ عام 1948 عندما تم الإعلان عن قيام هذه الدولة على حساب الشعب الفلسطيني الذي يناضل أبناؤه من أجل تحرير أراضيه في صراع أصبح يشكل القضية المحورية في المنطقة بكاملها. وفي اطار الاهتمام الدولي بقيادة الولايات المتحدة بدأت المنطقة تشهد منعطفًا سياسيًا تطبيعيًا بن النظم العربية ودولة الكيان الصهيوني حيث شهدت العلاقات عددًا من الاتفاقيات والمعاهدات كان أبرزها اتفاقية (كامب ديفد) 1979 اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، ثم توالت الاتفاقيات مع الأردن (وادي عربة) 1994 على إثر اتفاقية (أوسلو 1) مع منظمة التحرير الفلسطينية 1993 وما تلاها من اتفاق (اوسلو 2) 1995 وأخيرًا ما يعرف ب (الاتفاقيتة الإبراهيمية Abraham Accords 2020) التي طُبّعت فيها العلاقات بن دولة الاحتلال وكل من الإمارات، والبحرين، والسودان، والمغرب . لماذا نحن في منطقة قوس الأزمات هذا؟ تعتبر المنطقة العربية والحديث هنا عنها باعتباره الجزء الذي يهمنا ونقع ضمن دائرته، تعتبر هذه المنطقة ذات البعد والموقع الاستراتيجي الهام، الغنية بالنفط والموارد الطبيعية الهامة، تمتلك الدول العربية أكثر من 55% من احتياطي النفط العالمي، وما يقوق 27.5% من الاحتياطي العالمي للغاز إلى جانب العديد من الثروات المعدنية والزراعية والثروات البحرية ومصادر الطاقة الشمسية وغير ذلك الكثير . وبمجرد الوقوف على ثروتي النفط والغاز واللتن تُعتبران أهم مصادر للطاقة والتشغيل التي تعتمد عليها الدول الصناعية الكبرى، فإن المنطقة العربية تعتبر محط أنظار السياسة الدولية . وبالعودة إلى عام 1973 واستخدام الدول العربية المنتجة للنفط كسلاح على إثر حرب 1973 في مقاطعة الدول الداعمة للكيان الصهيوني الأمر الذي أعاق الاقتصاد (العالمي) مما لفت الأنظار لصناع السياسة الدولية التفكير بوضع حدٍ لتلك القوة والعمل على تفجير الصراعات والأزمات بها استشعارًا من الفاعلن في السياسة الدولية لمخاطر مستقبلية يمكن أن تكون أكثر ضراوة، فكانت المنطقة بالكامل ضمن منطقة (قوس الأزمات)، بهدف تفكيك المنطقة سواء بالطرق (الناعمة Soft Policy)والتي أفرزت سياسات التطبيع؛ حيث أنّ التطبيع مع دولة الكيان هو الرخصة وتأشيرة الدخول للعلاقات مع الغرب والمصالحة معه، أو عن عبر الطرق (الصلدة Hard Policy) من خلال دبلوماسية العصا الغليظة والتي قوامها العقوبات الاقتصادية والعسكرية .. والتي تستهدف إضعاف القوى في المنطقة أمام تمدد دولة الكيان.. وهكذا صوبت السياسة االدولية أسهمها نحو المنطقة فكانت سياسة الاستقطاب للبعض وصناعة الأزمات والانقسامات للبعض آخر وبعض منهم ممن ينتظر! وفي سياق هذه السياسة بقيادة الولايات المتحدة بدأت المنطقة تشهد منعطفًا سياسيًا بالدفع نحو التطبيع بن النظم العربية ودولة الكيان الصهيوني؛ حيث شهدت العلاقات عددًا من الاتفاقيات والمعاهدات كان أبرزها اتفاقية (كامب ديفد) 1979 اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، ثم توالت الاتفاقيات مع الأردن (وادي عربة) 1994 على إثر اتفاقية (أوسلو 1) مع منظمة التحرير الفلسطينية 1993 وما تلاها من اتفاق (اوسلو 2) 1995 وأخيرًا ما يعرف ب (الاتفاقيتة الإبراهيمية Abraham Accords 2020) التي طُبّعت فيها العلاقات بن دولة الاحتلال وكل من الإمارات، والبحرين، والسودان، والمغرب . وإذا أخذنا في الاعتبار ما يحدث في قطاع غزة من اعتداء صارخ تقوم به دولة الاحتلال على أبناء الشعب الفلسطيني وسياسة الأرض المحروقة والإبادة الجماعية، فإنما يأتي ذلك من واقع تلك المنهجية التي ترى في أيّ بوادر تظهر القوة على أنها خطر مستقبلي يجب القضاء عليه وفق النظرة الميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة The end justifies the means) ومن هذا المنطلق لا تعير دولة الاحتلال والدول الداعمة لها أيّ اعتبار لما تقوم به من قتل وتدمير فالغاية هي القضاء على المقاومة الإس امية التي أظهرت قدرات متفوقة إذا ما تركت فإنها لا شك ستحقق انتصاراتها وأهدافها الرامية وهي تحرير كامل تراب فلسطين التاريخية . وأمام العجز الذي انتاب الكيان الصهيوني في القضاء على المقاومة أو حتى إضعافها وعلى مدى سبعة أشهر متواصلة من القصف اليومي والاجتياح والتدمير والتقتيل، الأمر الذي حيّر قادة العدو، بل وقادة الدول الكبرى المساندة له، وعدم المقدرة على تفسير استمرار المقاومة وعدم نضوب أسلحتها، الأمر الذي جعل دولة الاحتلال تتجه للتفكير في اقتحام رفح اعتقادًا منها أنها مصدر تهريب السلاح، وفي ذلك إذا ما حدث انتهاك لاتفاقية السلام مع مصر وتهديد لأمنها الوطني .. الأمر الذي لا زال معلقًا ومتوقعًا.ولما كانت أصابع الاتهام تشير إلى أنّ إيران تقف وراء دعم المقاومة في فلسطين والداعمة لحزب الله في الجنوب اللبناني والحوثين في اليمن، ووفقًا لمنهجية إذا أردت شلّ الجسم عن الحركة فعليك بقطع الرأس، فإننا سندرك تمامًا أبعاد استدراج إيران للمواجهة مع دولة الكيان، والتي تعني المواجهة مع دول المنظومة الغربية، والتي تعمل على تقويض أيّة قوة يمكن أن تشكل خطرًا على مصالحها في الوقت الحالي أو المستقبلي . ولذات السبب استُدرِجت روسيا لحربها في أوكرانيا وفق استراتيجية (الإلهاءظ) إنها الاستراتيجية الجديدة ” اقطع الرأس تجف العروق” التي تنتهجها السياسة الغربية في التعامل مع الامتداد الإيراني في المنطقة . هذا ما سيكون عليه محور السياسة الدولية خلال المرحلة القادمة والتي في تقديرنا ستشهد فيها المنطقة تطورات دراماتيكية الأبعاد . فدولة الكيان والغرب بكامله يصعب عليه التعامل مع حركات المقاومة، ولكن يسهل عليه التعامل مع الدول والجيوش النظامية حيث الأهداف أكثر وضوحًا .

 

* د: جمال عبدالمنعم الزوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى