مقالات

حتى وإن ضيعتنا الدروب

قد يعتقد البعض إن الكتابة الأدبية أو الصحفية عملية سهلة يمكن لأي من كان خوض تجربتها ولكنها في حقيقة الأمر معاناة قاسية وحالة نفسية تستبد بالمبدع فتمنع عيناه عن الغمض وتضغط على اعصابه وتصيبه بحالة من التوتر الشديد ..فالكتابة خلق وإبداع وهي تجربة مؤلمة يخوضها الكاتب باعتبارها جزء من قدره …. الفترة التي يخلو فيها الكاتب إلى نفسه لصياغة افكاره هي لحظات تحترق فيها الأعصاب وتلتهب فيها الأنامل الي تمسك بالقلم حينها يغرق الكاتب في لحر متلاطم تتقاذفه فيه أمواج القلق والدهشة وتنتابه حالة مشحونة بالتوتر ومؤطرة بالخوف ..كل تجربة إبداع يمر بها الكاتب هي شروع في محاولة انتحار بطئ مع سبق الإصرار والترصد بالذات انطلاقا من أن معانقة القلم حالة رهيبة توصلك إلى حافة الجنون !! كل ذلك لا يشعر به إلا من أدمن الكتابة وتعايش مع تلك الحالة النفسية المعقدة التي يمر بها الكاتب أو الأديب أو الشاعر وخاصة عندما تستغرق رحلة الأبداع شهورا أو سنوات .. وفكرة موضوع كتابته يعيش معه وينام معه ويرافقه في كل خطوة يخطوها لا تفارقه حتى في ساعات نومه لتتجسد في احلام لا تنتهي وكوابيس لا تنقطع .. من خلال تجربتي في الكتابة الأدبية التي بدأتها بكتابة القصة القصيرة لأنها أقل وطأة على النفس وأخف وقعا على الذاكرة إذ أن فكرة كتابة رواية كثيرا ما كانت تراودني من وقت إلى آخر ولكني كنت مترددا في خوض تجربتها وأعمل على تأجيلها إلى مرحلة أخرى من مسيرتي مع الكتابة الأدبية حتى التقيت بها فتاة تختلف عن كل ما عرفت من فتيات في مواقع العمل أو على مقاعد الدراسة بالمؤسسات التعليمية ما شدني إليها حزنها الدائم ونظراتها التائهة في رحلة تأمل متواصلة ومضنية فقد شعرت بأنها مجروحة جرحا بليغا وسنوات عمرها غضة لا تحتمل نزيف الجرح ولا معاناته ..أحلامها متاهة تضيع فيها نبضات قلبها المعذب ..وأمانيها طواها سراب الأيام بين تموجاته المرتجفة وذلك عندما ضاع منها حبا ما زالت تعيش على ذكراه وتلوذ بأركانه التي تهاوت فلم تجد من تبثه لواعج حزنها ومشاعر أساها سوى قلمها الذي يقاسمها لحظاتها الدامعة تذرفها بصمت بعيدا عن عيون المتطفلين .. تهاطل دمع القلم قصائد بوح تبثها عبر أمواج رقيقة تنطق بها مشاعرها مع اشراقة كل شمس وفي وقت غروبها عندما يشق صدر الأفق خطا داكن الحمرة أو عندما تتمدد أمواج البحر لتلفظ أنفاسها على شواطئ فسيحة … روت لي قصتها ذات أمسية خريف شاحبة فقد أحبت شابا خلوقا ومثقفا ومن عائلة عريقة أرتبط قلبيهما بقصة حب أصبحت حديث كل شبان وفتيات الحي الذي تسكنه .. تعاهدا على الزواج بمجرد تخرجها من الكلية التي تدرس بها .. شدتني القصة بما احتوته من عاطفة صادقة ومشاعر نبيلة رغم نهايتها المأساوية فكانت تلك الفتاة مصدر إلهامي لكتابة قصة قصيرة بدأت خطوطها تتجمع في المخيلة يلهبها شوقي الدائم للكتابة ولا أدري كيف وجدتها دون قصد مني تحتل مكان بطلة القصة التي كانت تموج في الذاكرة خطوطا عريضة ومشاهد بلا ملامح .. قررت أن أكتب القصة ليقيني بأن أجمل القصص ما كانت تستند إلى وقائع حقيقية يزينها الكاتب بلمسات من خياله ونفحات من روحه .. شرعت في الكتابة دون توقف سوى محطات قصيرة للراحة ولكن سرعان ما أنكب من جديد على كتابة القصة التي تحولت إلى رواية رغما عني .. تشدني فصولها بدهشة الاكتشاف لأحداث تتوالى دون توقف تأخذني إلى هناك حيث مشارف عالمها المتسربل بالغموض .. والمستكين إلى الصمت .. أحاول في كثير من الأحيان الاقتراب من قلبها فلا أجد فيه إلا حنيتا لذكريات مضت .. وصورة باهتة لحبيب خطفه الموت فجأة في حادث مرور ذات يوم شتوي ممطر فانهارت بموته كل احلامها واجهز رحيله المبكر على كل آمالها فلم يعد لديها سوى الفراغ ووحشة الذكريات وصورة حبيب أترع القلب بفيض من عاطفة سامية أغلق عليها القلب ابوابه بعيدا عن متناول أي فضولي يسعى لإلقاء ولو نظرة عابرة على ما بداخله من أحزان وخيبة الأمل .. عاشت فترات من اكتئاب نفسي حرمتها من دفئ الابتسامة وروعة الإحساس بجمال الحياة فأصبحت مشدودة لواقعها الجديد الذي لم ترى فيه سوى جرحا يعيش معها حتى تحول إلى هاجس فلم يكن أمامها سوى أن تعيش ذكراه من خلال قصائد تتلفع بعباءة الحنين لتصب فيها كل دموعها واحزانها فكانت عزاؤها في تحمل قسوة الذكرى ومرارتها وفي مواجهة حقيقة إن الحبيب الذي كان ملئ العين والقلب قد رحل إلى عالم آخر .. من هنا كانت روايتي الأولى وغدا لن يكون الأمس التي نشرتها صحيفة الشمس على حلقات فكانت تعبيرا صادقا عن الحياة بواقعيتها وجدلية الزمن الذي يحاصرنا في كثير من الأحيان بزوايا ضيقة ..ورغم ذلك فإننا نتوق إلى الغد بشعور فياض من الأمل وإن سكنت احلامنا رحم المستحيل أو كانت أمانينا ضحية أقدار ظالمة أحيانا .. انطلاقا من أن الغد لا يمكن أن يكون الأمس فبين وداعه بدمعة واستقبال الغد بابتسامة تفرض الأحداث نفسها كجزء من قدرنا الذي تصبح محاولة الهروب منه محاولة يائسة نهرع إلى الحلم لأنه فعل إنساني مشروع حتى وإن كان الحلم ذاتيا في أغلب الأحيان .. ربما كانت هذه الرواية هدية موجعة إليها وما كنت قاصدا ذلك بقدر لم تقصد هي أن تكون ملهمتي في كتابة الرواية .. أو ربما كان القدر أكبر من رغبتي في أن لا تكون هي الشخصية المحورية في الرواية دون إذنها ولعل الرواية كانت بتدبير القدر الذي أتاح لقاءنا ذات امسية خريف هامسة النسائم في درى الجبل المقابل تعرض علي ديوانها الأول (ولأني أببتك ذات يوم) الأ نستطيع القول الآن إن الكتابة قاسية وضاغطة ومؤلمة في كل احوالها .. نكاد نشم فيها رائحة اعصابنا المحترقة .. وأناملنا التي تتحول في كل فعل كتابة إلى رماد .! ولكن يبقى كل ما نكتبه مصدرا لسعادتنا رغم المكابدة ليستمر متجاوبا مع مسيرة الحياة وأجيالها القادمة مشعل وعي ينير دروب كل العابرين حتى وإن ضيعتنا الدروب .

■ عبدالله مسعود ارحومة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى