الحديث عن الفن الغنائي الليبي ذو شجون
على الرغم من تنوع هذا الفن العريق عراقة هذا الشعب وأصالته المرتبطة بحياة الناس والمعبر عن مسيرة حياتهم وعواطفهم الصادقة ومشاعرهم المرهفة إلا إنه ما زال يعاني الكثير من السلبيات والصعوبات التي حدت من مسيرته وحالت دون انتشاره عربيا باستثناء دول الجوار الذين تجمعنا بهم سمات مشتركة من التراث القديم .. الكلمة المغناة الليبية تصدر من روح شفافة مفعمة بصدق الاحاسيس وبناء على ذلك فإن تأثيرها في المتلقي كبيرا ولأنها تأتي نتيجة معايشة مشاعر حقيقية ونابعة من أعماق الحياة فلم تكن متكلفة ولا معقدة في الأداء والإيقاع تنساب بسلاسة إلى عمق الوجدان نتيجة لرصانة معانيها وجمالية مفرداتها ورشاقة الحانها وغنى إيقاعاتها والتزامها اخلاقيا بقيم المجتمع وعاداته وتقاليده .. الأغنية الليبية بكلماتها ولحنها وادائها تتغلغل بعذوبة في روح المتلقي الذواق الذي يستوعب مثل هذا الفن الراقي البعيد عن الإثارة الحسية التي لا تراعي آداب المجتمع وقيمه فحين تصف الأغنية الليبية الحبيب لا تتجاوز في وصفها تلك الصور الجميلة التي تتشكل من فيض مشاعر سامية تترفع عن السقوط في مطب الوصف الحسي المفضوح .. فالأغنية الليبية ترتقي بالذوق وتهذب الاحاسيس ليفيض القلب بأجمل لحظات النشوة الموسيقية ذات الإيقاع المتميز والأداء الرصين المليء بالإحساس والمعبر عن مكنونات الذات الانسانية بأرق الكلمات واعذب الألحان وروعة الأداء .. الأغنية الليبية مرغوبة ومطلوبة على امتداد الساحة العربية ولكننا وللآسف لم نوفر لها وسائل وادوات الانتشار ونتيجة لذلك فإن أغلب القنوات الفضائية العربية لا تبث الأغاني الليبية إلا ما ندر .. وتقتصر على بث تلك الأغاني القائمة على الردح والخالية أحيانا من الذوق والحياء .. فالمعروق إن الأغنية إذا لم تلامس أعمق ما في ذات الإنسان لا يمكن أن يطلق عليها فن سمه ما شئت إلا أن تكون فنا فرسالة الفن عبر كل زمان ومكان هي الارتقاء بالذوق والسمو بالمشاعر وتهذيب النفس مما يعلق بها من النزعات الحسية التي لا تضيف لوجدانه شيئا سوى مزيد من الخواء العاطفي .. فالأغنية الليبية تتميز عن الأغنية في باقي الوطن العربي بالمحافظة على اصالتها وغنى مفرداتها التي تترجم معاني العراقة والبساطة وتراث الشعب الموغل في عمق التاريخ ولارتباطها بجوهر حياته ومسيرته عبر عصور طويلة وعلى الرغم من أن الاذاعة الليبية تأسست منذ سنة 1952إلا إن الأغنية الليبية لم تحض بذلك الانتشار المنشود لها واعتقد إن مرد ذلك يرجع إلى العديد من الأسباب أولها إن الدعم المطلوب يحتاج إلى امكانيات مادية كبيرة والاهتمام بتكوين فرقة موسيقية متكاملة وعدم وجود مثل هذه الفرقة سيترك اثرا سلبيا على مسيرة الأغنية الليبية الثرية في تنوعاتها الموسيقية القريبة من الوجدان والقلب فما زلت أذكر اثناء استقبال شقيقة زوجة دكتور لبناني يعمل بليبيا وبمجرد خروجنا من المطار طلبت وبإلحاح تمكينها من شراء أكبر عدد من الأشرطة التي تظم أغلب أغاني الفنان الراحل محمد حسن وعندما حصلت عليها كانت فرحتها كبيرة وكأنها حققت أحدى امنياتها الغالية أو حلما من احلامها الذي طال أمد انتظاره.. وبرغم كل ذلك هل تحظى الأغنية الليبية بالعناية اللازمة والاهتمام الذي تستحقه ..؟ وهل يجد الفنان الليبي طريق للانتشار عربيا بدعم من الجهات المسؤولة ..؟ واقول إن الدعم المطلوب غير متوفر والاهتمام مازال غائبا فهو مازال يعاني من صعوبات جمة ويصارع ظروفا صعبة في تنفيذ اعماله وانتاجها وتسويقها ففي حوار مع احد الفنانين جرى بيننا ذات يوم ذكر لي بأن الفنان يحتاج لتنفيذ اعماله لفرقة موسيقية يطلب عازفيها اجرا وهذا حق من حقوقهم .. والاستديو عند التسجيل يحتاج إلى تأجيره بمقابل نقدي . ومهندس الصوت أيضا وهو ما لا يتناسب مع القدرات المالية للفنان الأمر الذي يدفعه لإيداع اعماله احد ادراج مكتبه بالبيت .. أو الابتعاد عن مجال الفن.. وللتدليل على أهمية الأغنية الليبية والاقبال عليها بالوطن العربي فإن الكثير من الأصدقاء ذكروا لي إن الكثير من الفنانين العرب أثناء تقديم وصلاتهم بالقاعات ومسارح الحفلات الغنائية ولإرضاء جمهوره وخلق تفاعل ايجابي معه فإنه يعمل على أداء أغاني ليبية تقابل بحماس كبير من قبل الحاضرين .. ونتيجة لهذه الأهمية ولجمال الأغنية الليبية وانسجام الذوق معها وحتى يحقق الفنان الانتشار الواسع الذي يريده فإن الكثير من الفنانين العرب يؤدون أغاني ليبية أثناء وصلاتهم منسوبة إلى تراث بلاده إضافة إلى كثير من الألحان التي سرقت ولا يشار إلى انتماؤها الأصلي ..ولرغبة الفنانين العرب في أداء الأغنية الليبية فإن الكثير منهم تحصل على أجمل الكلمات وأروع الالحان وتم تنفيذها وتسجيلها وتوقف الأمر عند هذا الحد حيث إن الفنان أو الفنانة العربية لا تؤدي هذه الأغاني في حفلاتها على مسارح أقطار الوطن العربي ويقتصر اداؤها على اللون الخليجي أو المصري .. مثلا .. إذن ما المطلوب للخروج من هذه الدائرة المفرغة التي يدور فيها الفنان الليبي ؟ المطلوب دعمه وتشجيعه وتقديم كافة التسهيلات له وبعث شركات انتاج تتبنى اعماله وتعمل على تسويقها ورواجها بالخارج والداخل .. ثم لماذا لا تكون هناك قناة فضائية خاصة ببث الأغاني الليبية لإيصال هذه الروائع إلى المشاهد العربي ؟ أم أن الفنان الليبي سيعيش بين مطرقة الإهمال .. وسندان إلحاح الموهبة .. حتى يغادر دنيانا هذه.
■ عبدالله مسعود ارحومة