مقالات

من وحي الرسائل

لكل مقام مقال (الجزء الثالث والأخير)

وعندما يكون المقال عند المقام واجباً وخير الف مرة من السكوت السلبي عليه أن يكون مقالاً مسئولاً وإيجابياً يخدم الحقيقة ويجلب المنفعة والخير والأمن ، ويحقق المصلحة العامة ، ويحول دون وقوع الشر والضرر والشقاق ، ولا يلبي رغبات الظالمين الطامعين الفاسدين ومع كل ذلك يظل موقف السكوت السلبي في المقام عند العاجزين خير من المشاركة فيه بمقال سلبي ، وأن تظل صامتاً في اجتماع أنت غير راض عنه وعما يدور فيه خير لك من أن تشارك فيه بدعوتك للشر والفتنة والخراب والشقاق . وتحضرني هنا بمناسبة حديثي عن المقام والمقال السلبي الذي قد تلقى فيه قصة توارثناها بأوساطنا البدوية الليبية تتحدث عن شيخ في سابق الزمان كان له جاه وسطوة وسلطان ، وكانت للشيخ ناقة ترعى داخل مزارع أهل القرية تأكل الشجر ، وتفسد الزرع والثمار ولا يجرؤ أحد من أهل القرية أن يشتكى لهذا الشيخ من ذلك الفساد والأضرار التى تحدثها ناقته أو يطلب منه أن يربطها ويقيّدها وذلك خوفاً من غضبه و إقصاءً لشره وبطشه وردة فعله العصبية . وعندما زاد الفساد والضرر الذي تحدثه ناقة الشيخ بمزارع وأشجار ومحاصيل أهل القرية اجتمعوا (المقام) وتدابروا (المقال) وقررّوا تشكيل وفد من بينهم وتكليفه بالذهاب إلى شيخ القبيلة والحديث معه فيما تسبّبه ناقته من ضرر وفساد ، وقرّر أعضاء الوفد المكلفين بدورهم أن يشارك كل واحد منهم بالتعبير عن جزء من شكاية أهل القرية دون أن يترك الفرصة سانحة لأي أحد من أعضاء الوفد بالاكتفاء بالسكوت السلبي ، ولتنفيذ ذلك اتفقوا على أن يتناوبوا واحداً بعد الآخر على سرد شكاية وتظلم أهل القرية فحددوا فيما بينهم المتحدث الأول الذي سيتكلم عن اجتماع أهل القرية ، والمتحدث الثاني الذي سيقول بأن الناقة تُفسد الزرع والمحاصيل والمتحدث الثالث الذي سيطلب من الشيخ أن يقّيد ناقته ويربطها ، وعندما حضر الوفد إلى الشيخ رحّب بهم وسألهم عن حاجتهم التي جاءوا يطلبونها ، فنهض عضو الوفد المكلف بأن يبدأ الحديث مع الشيخ أولاً عن اجتماع أهل القرية ، ثم نهض عضو الوفد الثاني المكلف بأن يتناول موضوع الفساد الذي تسببه الناقة فبدأ قوله : الناقة … الناقة ….الناقة … فانتبه الشيخ الذي كان في غفلة عنه ، والتفت ونظر إلى الوفد مستفسراً سائلاً من يقول الناقة ؟! فارتعدت فرائس العضو المكلف بأن يقول الناقة تفسد الزرع والشجر ، وخاف هذا العضو من شيخ القبيلة بعد أن رأى الشرر يتطاير من عينيه وخشي من عاقبة مقاله الذي كلفه به الوفد فانقلب بمقاله وبما تم الاتفاق عليه مع رفاقه أعضاء الوفد ، ومع ما أجمع عليه أهل قرتيه ونهض خائفاً مترددا متلعثما قائلا للشيخ: الناقة يا سيدي الشيخ الناقة لا يجب أن تبقى وحيدة بمفردها ، الناقة تريد جملا يؤنسها ويرافقها. تبادل حينها بقية أعضاء الوفد المكلفين نظرات الدهشة والاستغراب ولاذ جميعهم بالصمت والسكوت السلبي دون أن يجرؤ أحد منهم على الكلام أو التعقيب أو التعليق ، وعلى ذلك النحو انتهى لقاء الوفد المكلف مع الشيخ ، وعاد الوفد إلى أهل القرية حزيناً كئيباً بعد أن فشل في أداء مهمته بسبب خذلان أحد أفراده وقيامه بمقال سلبي لا يليق بالمقام ، وبسبب سكوت بقية أعضاء الوفد الآخرين وجلب الوفد المكلف بسلبيته وخنوعه وخوفه لأهل القرية فساداً آخر يحدثه الجمل يضاف إلى الفساد الذي كانت تحدثه الناقة من ذي قبل ، وحقاً إن السكوت والجبن والتردّد يزيد من درجة الفساد في كافة المجتمعات . وتوارثت الأجيال جيلاً بعد جيل سؤال الشيخ : من يقول الناقة ؟! وصار مثلاً شعبياً معروفاً نردّده بمناسبة خوف المرء وجبنه وخشيته وتردّده عن قول المقال والكلام المناسب الذي يقتضيه المقام الذي تغلب عليه دعوات الشر والظلم والفساد ، ويسود فيه خطاب التهديد والوعيد والانتقام فيخشى فيه المرء على سلامته؛ بل على حياته إن نهض واعترض وجاهر بكلمة لا للظلم ؛ لا للفساد ؛ لا للشر؛ نعم للخير ؛ نعم للعدل ؛ نعم للسلام .

■ عمر الناجم ديره

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى