إن هذا الحديث الذي يربط بين استقلال الدولة الحقيقي وبين مقدرتها على الاكتفاء ذاتيا من حاجتها لمتطلبات سلع الحياة الضرورية المشار إليها يقود كذلك إلى القول بأنّ استقلال الدولة الحقيقي تؤكده مقدرتها على المحافظة على تلك السلع، وتنظيم استيرادها واستعمالها وبيعها وشرائها، وقصر مايتم استيراده من غذاء ووقود وسلع أخرى على المقيمين داخل أراضيها خاصة إذا كانت تلك السلع مستوردة من الخارج، ومدعومة من خزينة الدولة وبمبالغ مالية طائلة، ومأخوذٌ في الاعتبار عند استيرادها حاجة وعدد السكان المقيمين وحدهم دون غيرهم. إن الدولة المستقلة ذات السيادة هي التي تمنع إعادة تصدير مثل تلك السلع، أو إعادة الاتجار فيها من خلال الأجهزة الأمنية المسئولة المتخصصة بالمنافذ، والمعابر ومن خلال ماتسنه الدولة من تشريعات تكون كافية وشاملة وكفيلة بتحقيق المنع، وإن الدولة ذات السيادة هي التي تكون لديها المقدرة على مكافحة كل حالات التهريب التي تتم داخل أراضيها في أي وقت وفي أي مكان وذلك بضبط السلع المهربة وبإنزال العقوبات المشدّدة بالمهربين وأدواتهم. وجرائم تهريب البشر بأعداد كثيرة جداً وعبر دروب ومنافذ متعددة ليلاً وفي النهار من دول وسط وشمال القارة الأفريقية عبر البحر الابيض المتوسط نحو أوروبا قصة من قصص التاريخ البشري التي تؤكد عجز تلك الدول المستقلة ذات السيادة والتي تقع مثل تلك الجرائم داخل أراضيها وعند شواطئها ومياهها الاقليمية عن فرض سلطتها وبسط سيادتها وتأمين حدودها وعن فشل وهزيمة أجهزة تلك الدول المعدة والمجهزة والمكلفة بحماية وصون الحدود أمام غزو بشري قادم من كل حدب وصوب حامل وبكل أسف- لفقره وجهله ومرضه وتخلفه وسوابقه الجنائية، والحامل في ذات الوقت لأحزانه وهمومه ومظالمه وأحقاده القائمة وأحقاده الأخرى الدفينة الموروثه الناشئة عن جرائم الاستعمار الذي احتل بلداتهم ونهب كل خيراتها وترك شعوبها فريسة للجوع والفقر والمرض . إن الدولة المستقلة ذات السيادة هي التي تنجح في منح ووقف جرائم تهريب البشر عبر أراضيها وشواطئها، ولا تتعامل مع هذا الموضوع من خلال مفهوم ومنظور ومسمى (الهجرة غير الشرعية) الذي صاغت تسميته ومواثيقه والتزاماته وآليات التعامل معه الدول الأوروبية وحدها؛ تهرباً من مسئولياتها التاريخية الناجمة عن استعمارها لتلك الشعوب، ومحاولة للتستر عما خلفه ذلك الاستعمار من أضرار مادية ومعنوية، ومن أحقاد وكراهية. والدولة المستقلة ذات السيادة المعنية بهذا الموضوع هي التي ترفض أن يُلقى عليها بأية أعباء أو مسئوليات ناجمة عن تلك الهجرات وتُلقي بكل الأعباء والمسئوليات على الدول التي استعمرت تلك الشعوب وتركتها على ذلك النحو من الفقر والتخلف والتعاسة مدعية أنها دول قد نالت استقلالها وصارت تتمتع بالسيادة. إن المشروع الحقيقي للدول المستقلة ذات السيادة المعنية بموضوع الهجرة هو الذي يدعو ويتمسك بفكرة ومقترح إيقاف ومنع الهجرة كليا من خلال الاهتمام بالمهاجرين داخل بلدانهم وبمختلف السبل والوسائل الكفيلة بعلاجهم وتعليمهم وتغذيتهم والرفع من مستوى معيشتهم على أن تتحمل الدول الأوروبية التي استعمرت تلك الشعوب ونهبت خيراتها كل التكاليف وكل التدابير وحدها .. وحدها . إن الدولة المستقلة ذات السيادة والمتضررة من موضوع الهجرة غير الشرعية هي التي تبادر بالإعلان عن عقوبات وجزاءات وتدابير مشدّدة وصارمة ومانعة للهجرة بمافيها (إعلان حالة الطوارئ) وهي التي تنظر إلى هذا الموضوع بمنظور إنساني يستحق الاهتمام والبحث والمناقشة ومعرفة الأسباب وتحديد وسائل العلاج، وبمنظور آخر أمني وذلك باعتباره غزو بشري قد يكون (مدبراً، وممنهجاً، ومخططاً له) يستهدف وجود الدولة وأرضها وشعبها ومائها وخيراتها وغذائها واقتصادها وصحتها وتركيبتها السكانية الديموغرافية، ويهدد نسيجها الاجتماعي المترابط، وينذر بزواله وتفككه، وقدوم آخرين لايتكلمون بذات اللغة ولا يدينون بذات الدين والمعتقد. والحقيقة التي لايمكن إخفاؤها هي أن استقلال الدولة لا يؤكد وجوده ودلالته إلا قدرتها على القيام بكل أفعال السيادة داخل أراضيها في أي وقت وعند أي مكان، والوهم كل الوهم هو ادعاء الدولة العاجزة بأنها مستقلة، وأنها قادرة على بسط كل أفعال السيادة داخل أراضيها وهي في الحقيقة تخشى القيام بذلك أو لا تقوى على أي فعل من أفعاله .
■ عمر الناجم ديره