كان أربعتنا في مطار سبها في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي وكنا قد قطعنا بطاقات الصعود على متن طائرة الخطوط الجوية العربية الليبية القاصدة طرابلس .. يافعان قاما بتسجيل قيدهما الدراسي في جامعة سبها وتقديم أوراقهما لإتمام عملية التسجيل .. أنا في قسم اللغة الإنجليزية واليافع الوسيم الخجول جدا رمضان الشيباني في قسم التاريخ .. وكهلان أحدهما مهندس نفط جزائري والثاني والد الطالب رمضان الشيباني وقد دار حديث بين الكهلين رحمهما الله تعالى ورغم انقطاع الاتصال بالمهندس الجزائري فور وصول رحلة الخطوط الجوية إلى العاصمة إلا أننا نستبعد فقط أن يكون اليوم على قيد الحياة بينما غادرنا يقينا الحاج الشيباني إلى حيث يغادر الناس في هذه الدنيا الفانية، وفقا لبعض إدراجات ابنه رمضان في صفحته على الفيس رحمة الله عليهما معا .. تحدث المهندس البترولي الجزائري عن قيمة دراسة التاريخ والاجتهاد فيه حديثا طيبا عندما أبدى الحاج الشيباني بعضا من الامتعاض بسبب التحاق ابنه بالقسم مقارنة بالدراسة في أقسام النفط ثم العمل في مؤسساته أو في شركاته ونيل الأموال الوفيرة والمزايا الكثيرة .. كان حديث الجزائري حديث الواثق لكننا ظنناه حينها مجرد تطييب خواطر لرمضان ولوالده .. اليوم وبعد أكثر من أربعين سنة أدركنا قوة حجة المهندس النفطي وأدركنا أن الأمجاد العلمية والأمجاد الوظيفية والأمجاد الوطنية لا يصنعها نوع التخصص بل تصنع بنوع المتخصصين وتصنع بالاجتهاد والمكابدة والعرق والإبداع والوطنية .. في مدينتي استطاع معلم يدعى محمد الزهيوي و بما جبل عليه من خصال حميدة و إخلاص لدوره كمعلم ودوره كمدير مدرسة أن يسجل اسمه بمداد من ذهب وأن يكرم على صنيعه بإطلاق اسمه على مدرسة حكومية أدارها باقتدار ردحا من الزمن قبل أن يفضي إلى ما أفضى اليه الناس .. كما استطالت التسمية إلى المنطقة التجارية الكبيرة في قلب المدينة والتي صارت تعرف بمنطقة الزهيوي بينما في المدينة لا يذكر أحد أسماء الذين تولوا إدارة مصفاة النفط الضخمة التي تقع على بعد المدى المؤثر لطلقة مسدس في كف أشوس من الأشاوس .. السيد رمضان الشيباني والذي تنبأ له مهندس النفط بمستقبل باهر في التاريخ وفي البلاد صار من علماء الآثار في بلادنا ومن حماتها وممن قادوا مصلحة الآثار، وقادوا فيها إدارات كبيرة ولا يزالون ..وممن طافوا العالم للحديث عن كنوزنا التاريخية والتعريف بها والمطالبة باستعادة المفقود والمنهوب منها و من الضالعين في ترميم بعضها .. رمضان الشيباني اليافع الوسيم الخجول في منتصف الثمانينيات صار من العلماء الذين يشار لهم بالبنان ولو لم يعانقه شوق الطموح وشوق الإصرار وشوق الاجتهاد لظل إلى اليوم مدرس تاريخ في بعض مدارس حقف قرية تاغمة في مدينة يفرن في أمة لا تقدر عظمة المعلم وتتعاطى معه غالبا على أنه في آخر سلم أولويات اهتمامها بالوظائف وأنه دائما يأتي في جهة العين العورة لهذه الأمة المريضة .. أكرم برمضان من عالم وأكرم بكل وطني مخلص مبدع في هذا الوطن .
■ عبدالله الوافي