الخدمات الصحية … واقع وآفاق
عندما أرى الأعداد الغفيرة من المرضى الليبيين يتجهون للعلاج بدول الجوار يراودني سؤال عن الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة التي طال امدها الأمر الذي أوقعني في حيرة من أمري .. ويزيد من إلحاح السؤال على ذهني عندما سمعت أحد الأصدقاء يقول وقد عاد أخيرا من بلد عربي .. إن ما شاهدته من مرضى ليبيين بمصحات دولة مجاورة جعلني اعتقد بأنه لا توجد في ليبيا مستشفيات ولا مصحات قادرة على تقديم خدماتها لهؤلاء المرضى أو إنها عجزت عن تطوير ذاتها حتى يمكن من خلالها توطين العلاج بالداخل بدل البحث عنه خارج الوطن . وأغرق في لجة من الحيرة وأنا أتساءل للمرة الألف . هل مرد ذلك عدم وجود مؤسسات صحية لدينا ؟ ويأتي الجواب مفعما بالكثير من المرارة .. توجد لدينا الكثير من المؤسسات الصحية التي لا تقل مرافقها ومستوى خدماتها عن ما هو موجود بالخارج وكذلك الأطباء المتميزون في تخصصاتهم . إذن أين تكمن المشكلة التي تعبر عنها مجاميع المرضى الذين يتجهون إلى الخارج للعلاج ؟ اعتقد بان الوقت قد حان للشروع في تطوير منظومة الخدمات الصحية في البلد خاصة إن هناك الكثير منها ما زالت تتمتع بإمكانيات تؤهلها لأن تكون في مستوى نظيراتها بالخارج هذا فيما يتعلق بالمدن الكبيرة التي توجد بها هذه المؤسسات ويبقى الأمر متعلقا بما هو موجود من مؤسسات صحية بالدواخل سواء أكانت عيادات مجمعة أو مراكز صحية أو مستشفيات أو مستوصفات التي تعاني من قصور في أداء مهامها سواء أكان الأمر متعلقا بإمكانياتها الفنية أو عزوف الكثير من الأطباء للعمل بهذه المرافق الصحية نتيجة لعديد من الظروف إلا القليل منهم الذين ما زال بداخلهم سجية الوفاء لوطنهم وأهلهم. أقول إننا في زمن لابد من الاعتماد فيه على قدراتنا وإمكانياتنا التي يوجد لدينا منها الكثير مما لا يتوفر لدى بعض الدول الأخرى قطعت شوطا طويلا في الخدمات الصحية ولم يقتصر باستيعاب مرضاها فقط بل اصبحت تستقبل آلاف المرضى من دول أخرى ليصبح مردودها المالي جزءا من الناتج المحلي لديها . لقد أصبح لزاما على وزارة الصحة التي يجب أن يديرها من ذوي الكفاءة في مجال الطب والقادر على التخطيط والتنفيذ وقدرته على توفير الظروف المناسبة والشروع في التطوير والتحديث من خلال إلمامه بمتطلبات القطاع ونواحي القصور به … نحن نعلم جيدا إن العلاج بالخارج كثيرا ما يعرض المرضى للابتزاز الذي لا يتلاءم أخلاقيا مع مهنة الطب باعتبارها مهنة إنسانية بالدرجة الأولى .. وأقولها بكثير من الأسف ومن خلال تجارب العديد من ذهب للعلاج بالخارج بأن الكثير من المصحات التي يقصدها الليبيون بالخارج أصبحت تتعامل بمنطق تجاري سواء بالمبالغة في أسعار الكشف أو ثمن الدواء أو تكاليف الإيواء . لاينقصنا نحن الليبيون الأطباء المهرة والمستشفيات التي نفذت على أحدث المواصفات ولكن كل ما نحتاج إليه هو النظر إلى قطاع الصحة بعين الحداثة والرغبة في التطوير أما إذا بقى الحال على ما هو عليه الآن فإن الأمر سيكون من التقصير غير المبرر أن يلجأ أغلب المرضى للعلاج بالخارج . كما إنني أدعو وزارة الصحة لدراسة تنامي ظاهرة الجلطات والأورام السرطانية والمطلوب تشكيل لجنة من ذوي الاختصاص ولا مانع من الاستعانة بمراكز بحثية من الخارج لدراسة هذه الظاهرة ووضع الحلول الناجعة لها . ومن خلال تجربة شخصية مع مرض الأورام فإنني أكتب والحزن يعتصرني نتيجة معايشتي لمعاناة المرضى الذين يقطعون لأخذ جرعة الكيماوي أو للمراجعة مئات الكيلومترات للوصول إلى مركز صبراته أو مستشفيات العاصمة التي بها قسم للأورام .. كل ذلك نابع من عدم مراعاة التوزيع السكاني والجغرافي أثناء تنفيذ مثل هذه المراكز التخصصية وأترك لكم تقدير قسوة المعاناة لمريض من غدامس مثلا . وأسجل هنا بكل فخر الخدمات التي يقدمها مركز الأورام بصبراته باعتباري شاهد عيان على مستوى المعاملة الإنسانية الراقية التي يتعامل بها كل العاملين بالمركز مع المرضى وما يتميز به الأطباء من الجنسين من مهارة تضاهي نظرائهم في الدول أخرى .. وإن الكثير من حالات الأورام وجدت طريقها للشفاء بالمركز نتيجة لخبرة الأطباء التي يشهد بها أطباء متخصصون بالبلدان الأخرى وبما تم توفيره من إمكانيات أخيرا .. وأدعو إلى نظرة شاملة للقطاع الصحي عبر الآتي …
■ بعثات من الأطباء للدول المتقدمة لمزيد من الاطلاع على ما توصل إليه العلم الحديث من إمكانيات في مجال الأجهزة والتشخيص والعلاج .
■ التركيز على دورات تخصصية للتمريض خاصة في مجال الخدمات السريرية التي تحتاج إلى مهارات خاصة .
■ اقتناء الأجهزة الحديثة في مجال الكشف والعلاج والتشخيص .
■ تشجيع رجال الأعمال الليبيين في الاستثمار في المجال الصحي .
■ اعتماد خطة إعلامية عبر الصحف والقنوات المرئية لإعاده ثقة المواطن الليبي بقدرات أبنائه الأطباء ومؤسساته الصحية .
■ الدعوة إلى ملتقى للأطباء الليبيين العاملين بالخارج من الذين لهم شهرة عالمية في مجال تخصصهم ليساهموا في دراسة الواقع الصحي لبلدهم وتقديم مقترحاتهم لتطويره .
■ استيراد الدواء من الشركات المصنعة ذات الشهرة العالمية في هذا المجال .
■ الاستعانة بخبرات الأطباء المتقاعدين والاسترشاد بآرائهم والأخذ بمقترحاتهم في مجال تطوير القطاع الصحي للبلد . كل ذلك يمكن القيام به في وجود رؤية واضحة للواقع الصحي تعمل على الحد من العلاج بالخارج وتوطينه بالداخل .. ويبقى أن أنوه بالخطوات التي اتخذت مؤخرا فيما يتعلق بعلاج الأورام وتوفير الكثير من الأجهزة التي كان المواطن يسعى إليها بدول أخرى واعتبر ذلك خطوة على الطريق الصحيح .. وهي الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل التي سنجتازها بالصبر والرغبة في الوصول إلى ما نصبو إليه .
● عبدالله مسعود ارحومة