اجتماعيتقاريرتقنيةثقافةفنيمقالات

من جعبة الذكريات

اعتقد إن الظروف التي عاشها جيلنا كانت تتسم بالكثير من القسوة إضافة إلى حالة الفقر التي كانت عليها أغلب العائلات في ذلك الوقت ولكن أقسى معاناة واجهت جيلنا هي معاناة الدراسة التي لا تقل وطأتها عن الحاجة والخصاصة .. ..فقد عانى جيلنا من ظروفا قاهرة لو واجهت أجيال اليوم لما وجدنا تلميذا بمدرسة أو طالبا بمعهد أو كلية …فقد كانت منطقتنا التي تمتد من وازن إلى الحرابة بقمة الجبل والجوش يسهل الجفارة لا توجد بها إلا مدرسة اعدادية واحدة وكان لزاما على كل أبناء هذه المنطقة الدراسة والإقامة بالقسم الداخلي بمدينة نالوت ..كنا لا نزور أهلنا إلا في عطلة الأعياد نقطع عشرات الكيلومترات مشيا على الأقدام ننحدر من جبل لنصعد جبل مقابل أكثر علوا من الأول …أما فيما يتعلق بالمدارس الثانوية فإن المنطقة الممتدة من غدامس إلى مزدة لا توجد بها إلا مدرسة ثانوية واحدة ومن أراد الدراسة بالمرحلة الثانوية فعليه الذهاب إلى مدينة غريان ..أما معاهد المعلمين فكل منطقة الجبل والمناطق الأخرى الواقعة بسهل الجفارة لا يوجد بها إلا إسماعيل الجيطالي بمدينة جادو وهو المعهد الذي يلتحق به أغلب الحاصلين على الشهادة الإعدادية لا لشيء إلا من أجل الحصول على وظيفة معلم تتيح للأسرة الحصول على دخل ثابت يخرجها من دائرة الفاقة والعوز وكم من طالب موهوب خضع امام هذا الظرف القاسي وتخلى عن حلمه في مواصلة الدراسة الثانوية ثم الجامعية ومنها إلى الدراسات العليا وهو ما جعل المجتمع يخسر العديد من القدرات العلمية والأدبية التي ربما كان لها شأن كبير في المستقبل ..ولكنهم اختاروا اقصر الطرق للوظيفة العامة انطلاقا من احساسهم المبكر بمسؤوليتهم عن أسرهم ..والقلة منهم أتيحت لهم فيما بعد فرصة مواصلة دراستهم الجامعية بالانتساب فكانوا من المتفوقين في مجال تخصصهم مما أهلهم لشغل مواقع مهمة في هيكل الدولة الإداري أو السياسي ….ما زلت أذكر وكل أبناء جيلي إننا كنا نذاكر دروسنا على مصباح كيروسين ) فنار(وما تسببه إضاءته الضعيفة من اجهاد للبصر وتوتر وللأعصاب ولكن كانت الرغبة في النجاح الكامنة فينا هي التي تدفعنا لمواصلة الدراسة رغم قسوة الواقع …. كثيرا ما تداهمني الذكريات وأنا بهذا العمر فأستعيد من خلالها صورا من الماضي لأرى نفسي عندما جئت تلميذا بالصف السادس منقولا من مدرسة شارع الزاوية بطرابلس لتي تركت بها الكثير من الأصدقاء والعديد من رفاق الطفولة والكثير من الذكريات الجميلة التي توحي لي بها تلك الأزقة والشوارع كلما زرتها وطفت عبر دروبها … الحوامد حيث أنتمي تتكون من ثلاثة قرى وكانت المدرسة الوحيدة التي بناها الأهالي تبعد عن قريتنا حوالي أثنى عشر كيلو متر وعلينا قطع هذه المسافة يوميا لمدة شهرين إلى أن استضافتنا عائلات كريمة للإقامة عندها حتى نهاية العام الدراسي ..كان معي زميلان انتقلا إلى رحمة الله في السنوات الأخيرة ..كان احدنا هو من يقودنا خلال رحلتنا اليومية التي تبدأ قبل الفجر بساعات أما أنا والزميل الثاني فكنا نسير وراءه نتيجة لأننا نعاني من مرض العشى الليلي مما يجعلنا لا نر معالم الطريق ليلا وزميلنا هذا الوحيد الذي كان يبصر جيدا رغم ظلمة الليل الدامسة ..ولكنه سرعان ما ضاق بقيادته لنا عبر درب ضيق يتسلل بين التلال العالية ثم ينساب إلى فسحة سفح منبسط.. في أحد نوبات ضيقه أقسم أن لا يكون اليوم دليلنا على الطريق مما حدى بالزميل الآخر التطوع ليحل محله في مقدمة ركبنا الصغير ..ونتيجة لأنه لا يرى في الليل ابعد من قدميه فإنه لم ينتبه إلى نهاية الطريق الذي يدور في نقطة ما حول حافة جرف عالي صنعته السيول عاما بعد آخر ونتيجة لذلك سقط من حافة الجرف إلى قاعه ولم نسمع إلا صرخته المدوية تشق صمت المكان مصحوبة بجلبة تصدر عن شيء آخر ..واعترانا أنا وزميلي صمت يشبه صمت القبور قلت بعد لحظة عانيت فيها من توقعات مروعة .. لابد إنه سقط علة ظهر ضبع يقضي ليلته بين جدران الجرف ..!! ولكن سرعان ما سمعنا زميلنا وهو يتسلق حافة الجرف .. وهو يقول ضاحكا… كدت أن امسك لكم بطير حجل وواصلنا الطريق بعد أن عاد زميلنا الأول إلى مهمته كدليل لنا بعد أن تأكد له عجزنا على هذه المهمة .. كنا أطفالا صغارا بالصف السادس الابتدائي نقطع ثلاثة أرباع الطريق في ظلام دامس والربع الأخير على ضوء فجر كل الأشياء فيه نراها مطموسة الملامح …وتزداد معاناتنا بفصل الشتاء عندما نواجه ريح الغربي القاسية البرودة .. تصطك بتأثيرها أسناننا وترتعش كل ذرة من اجسامنا التي نلفها ب ) حوالي ( صغيرة نسجته امهاتنا من ضياء عيونهن ..عندما نصل إلى التلة المشرفة على مبنى المدرسة كان أهل القرية ما زالوا نيام فنحتمي بشجيرات حلفاء ونحاول إشعال النار للتدفئة ولكن في كثير من الأحيان نستهلك علبة كبريت كاملة ونفشل في إيقاد النار لأن أصابعنا تكون حينها متصلبة من شدة البرد .. ورغم كل ذلك كان التميز والتفوق… فأين كل ذلك من أجيال اليوم الذي لا يغادر معظمهم بيت والديه من مرحلة التعليم الابتدائي وحتى تخرجه من احد كليات الجامعة مع توفر كل أمكانيات الحياة الضرورية بل والكماليات أيضا ..

■ عبدالله مسعود ارحومة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى