تأملات فى الهزيمة والنصر
يقولون الهزيمة يتيمة وللنصر ألف أب ، وفى الحقيقة فالهزيمة يتيمة ولا يريدها أحد ، ولكن تعالوا ننظر للهزيمة برؤية جديدة خصوصا ونحن فى مستنقع الهزائم ، فليس النصر وحده له نظريات وفلسفات، وإنما للهزيمة فلسفة ونظريات وأبطال ؟ فمثلما هناك من كتب ودبّج في نظريات النصر وانعكاساته فتلك اليتيمة الهزيمة : لا يوجد من يكتب عنها أو عن نظرية الهزيمة وعلومها ، علما أن من واجب الناس الذين تعاني أمتهم من الهزائم أن يبرزوا أسباب وأصول الهزيمة لكي يتم تجنبها، فهناك أسباب للنصر، وهناك أسباب للهزيمة، مثلما هناك أسباب لتلافي الهزيمة، وهناك فلسفة للنصر وأخرى للهزيمة. وهناك من يقول إن الهزيمة مع السلامة غنيمة . وقال المناضل الأممي تشي جيفارا : لست مهزوماً ما دمت تقاوم ، ولكن ما جدوى المقاومة وانت تعرف أنك لن تنتصر ياسيد تشى ؟ أكتب هذه الكلمات وأنا أتذكر لحظة فارقة عشتها عن قرب ، شاهد على الهزيمة فقد كنت فى فندق ببنغازي وكان يسكنه وقتها الرئيس موبوتو سيسيسيكو امبراطور زائير ، كان الرجل في زيارة إلى ليبيا فى ذلك الوقت وأنا كنت صحفيا فدخلت إلى بهو الفندق والتقيت بالشاعر الراحل محمد الفيتوري رحمه الله ، كان المكان مزدحما وتسوده الفوضى ، سألت الشاعر الفيتوري عن سبب الفوضى فقال لي إن العاصمة الزائرية سقطت فى يد خصوم الرئيس سيسيكو ، وقال لي إنه قد يصاب بالجنون ومنذ ساعة والأطباء يحاولون إعطاءه مهدئات ، لم يسبق لي مشاهدة رئيس وهو يعيش الهزيمة ، ولم يسبق لي مشاهدة ما يحدث وكيف يتصرف الرؤساء لحظة الكارثة ، كنت أظنهم رجال سوبر من طينة أخرى لا يتأثرون بالأشياء التي تزعج الناس العاديين ، لكن فى لحظات ظهر الرئيس الزائيري وكان محاطا بالطبيب وعدد من المرافقين ، الرئيس الذي أطلق على نفسه لقبا طويلا يعني «موبوتو المجاهد الذي سينتصر ثم ينتصر ودون أن يستطيع شخص إيقافه» كان يضرب رأسه بيديه ويصرخ ويصيح ، «كيف لم أعد إمبراطور ؟ كيف يحصل هذا ؟ طبعا كان الشاعر الفيتوري هو الذي يترجم لي ما نسمعه ، وكان الرئيس يرطن بلغة غريبة ، كانت زوجتاه معه وهن يرتدين قبعات بها ريش كالنعام وهو يصرخ ويلوح بيديه ، التفت ساعتها رأيت عينيه عن قرب ، كانتا فارغتين كحفرتين مظلمتين ، كان يبدو كهلا هزمته اللحظة والتاريخ ، شعرت بالقشعريرة ، قلت للشاعر الكبير ، لماذا يتمسك الرؤساء بالمناصب إلى الهاوية ؟ لماذا لا يبحثون عن حلول مع خصومهم ؟ قال لي الفيتوري ، إنها جاذبية الكرسي ، الكرسي يجعل الإنسان مجنونا ، بفعل المتملقين والمحيطين بالرئيس وما يقال له عن التميز والزعامة وأنه سوبر مان وأن شعبه يحبه وأنه هبة من السماء وبتكرار هذا الكلام يفقد الرئيس بصيرته ويصبح صنما أوكائنا لا يدرك ما يدور حوله إلى أن تأتيه لحظة الحقيقة ، وتلك لحظة صادمة ، ولأن الرئيس – أي رئيس- بفعل النفاق والخداع والكذب والخوف والسلطة المطلقة يفقد الرئيس بصيرته والحكمة ويتحول من إنسان إلى وحش ضار يسجن ويتصرف في مصائر الناس كيف يشاء ، ولأن الكواسر والضواري ليس لها إلا خياران لحظة المواجهة وهي إما القتال وإما الفرار فلذلك نرى كيف فر الرئيس بشار الأسد وترك كل شيء وراءه ، إنها صيرورة التاريخ وصراع الخير والشر إلى الأبد ، فلماذا لا يأخذ الرؤساء الدروس ويتصالحوا مع شعوبهم بدلا من تكرار الحروب والهروب ودمار الدول ؟ إنه السؤال المهم ، ولقد توقفت كثيرا عند مقدمة ابن خلدون ابو علم الاجتماع في مقدمته الشهيرة عن سقوط الحضارات وانهيار الدول ، ولكن ما شدني أكثر هو ما جاء فى كتاب الله في سورتي الشعراء والقصص المباركتين ، فالسورتان اللتان تبدآن بالآية الكريمة ) طسم( تتناولان انهيار القرون الأولى وهلاك الامم وهلاك الأفراد الطغاة كقارون .. حفظ الله بلادنا وأصلح حال أهلها وجمع شملهم .
■ د. أبو القاسم صميدة