من يعتقد أن ذاكرة الجموع تفقد الإرادة وتصيبها أمراض الشيخوخة والتصحر هو بالتأكيد مخطيء ، وغير مطلع على حوادث التاريخ ، التي لايمكن تهميشها أو تلميعها، فذاكرة الشعوب لاتصدأ ولا تؤثر فيها عوامل التعرية أوالتعتيم الإعلامي الممنهج ، وأن اعتراها شيء من الخمول المؤقت ، جراء حمات تغييب الوعي وتشويه الفكر الذي قد تتعرض له ، لكنها سرعان ما تعود للتوهج ، لأنها تختزل الوطن ، والأوطان لا تشيخ ولا تنحني ، أو تتأثر بالمحن والكروب والعواصف العاتية مهما كانت قوتها قد تمرض ولكنها لاتموت ، لأنها هي الثابت وغيرها المتحرك ، وهي الحق، وغيرها الباطل ، وموروثنا الثقافي وحتى العقدي ، مليء بالقصص التي تسمو بعزة الأوطان وتعظم وجودها .. ألم يقل فرعون في لحظة تكبر واستعلاء ، أنا ربكم ألاعلى وامر وزيره هامان أن يبني له صرحا حتى يرى رب موسى ، وجمع السحرة لنصرة الظلم وتكريس الجحود؟ فإذا بعصى موسى بأمر رب موسى تتلقف ما يؤفكون .. لتكون تلك اللحظة الفارقة التي انتصر فيها الحق على الباطل ولتعبر الجموع براية العدل ، تشق عباب البحر أمام دهشة حشود القوة وجبروت وعنجهية السلطة التي كان يمثلها فرعون وسدنته ! إنه تأكيد رباني، بأن الجموع إذا ما دقت ساعة الحقيقة ، يصعب على السلطة ترويضها ،رافضة كل قوالب الردة ومحاولات النيل من كرامتها ، ولن تسمح للمحتل بالمرور إلا فوق جثث أبنائها قبل أن يدنس تراب الوطن .. هذا هو المجد ، وهذا هو الفخار ، وهذا هو الخلود ، الذي يصنعه الفداء والعطاء المتواصل ، الذي لا يمكن أن تصنعه مهرجانات التطبيل التي تنفق عليها الملاين لتخليد ذكرى وصولك إلى السلطة ، ولا يمكن أن يصنعه لك مغن تافه وضيع يمتدحك بماليس فيك ! إن المرء لا يستطيع أن يهجر وطنه الذي تحتضن تربته رفات آبائه وأجداده التي هي الجذور ، وحتى وإن قرر الرحيل ، فالوطن ليس شيئًا يوضع في حقيبة ، وليس بيتًا يمكن أن يُباع، أو أرضا تترك ليحرثها الغريب. الوطن هو شواهد من سبقونا، وهو التراب الذي علّمنا كيف نخطو أولى خطواتنا فوق أديمه ، الوطن قدر ونحن من نصنعه ونروي ترابه بدموعنا وعرقنا، ونحمل على أكتافنا عبء تاريخه وأحلامه.
■ عون ماضي