الذاكرة الشخصية قدرة ذهنية ميز الله سبحانه وتعالى بها الإنسان عن غيره من المخلوقات ، وليستطيع الإنسان بفضلها تخزين وحفظ ما تلقاه من دروس ، وما يتحصل عليه من معلومات أو مايراه ويسمع عنه من حوادث وقصص وحكايات مختلفة ، ولا تعد تلك القدرة الذهنية سلمية ومعافة إلا عندما تتحول تلك المعلومات والحوادث إلى خبرات تحفظ داخل مخزن الذاكرة ليستطيع الإنسان تذكرها وبعثها ونفخ الحياة فيها متى أراد ، أو متى دعت الحاجة لذلك . والإنسان من خلال وظائف الذاكرة السلمية تجنب تكرار الأفعال والتجارب التي جلبت له الضرر والفشل والألم والإخفاق وذلك لمعرفته المسبقة بالأسباب التي كانت من ورائها لأول مرة ، وبالمقابل يكرر الإنسان فعل كل ما يحقق له الخير والسعادة ويجلب له النجاح والأمن والراحة والطمأنينة، ويتسع مخزون ذاكرة الإنسان ليستوعب بداخله كل الأعمال والمواقف الخيرة والإنسانية ، وكل الأعمال الشريرة التي تصادف الإنسان في حياته وعند تعامله مع الآخرين فيحتفظ بها وينقلها كخبرة جاهزة لأبنائه وأحفاده على هيئة نصائح وتوصيات تدعوهم للمحافظة على علاقات المودة والصداقة مع كل من ساعده ومد له يد العون للتغلب على مشاكل الحياة وتطلب منهم أن يحفظوا الجميل لأصحابه ، كما يحذرهم من مغبة التعامل مع آخرين كانوا قد غدروا به أو تخلوا عنه أو ناصبوه العداء وحالوا دون حصوله على حقوقه وعندما تتأثر الذاكرة الشخصية للإنسان بسبب الإصابة والمرض ، أو بسبب العجز والشيخوخة تعجز الذاكرة جزئياً أو كلياً عن القيام بمهمة استقبال وتلقي المعلومات وحفظها وتخزينها وتحويلها إلى خبرات ، وتتعطل قدرتها على إعادة تذكر المعلومات والأحداث ، وإعادة بعث الحياة فيها من جديد فيصاب الإنسان بالنسيان ، ويتبخر مخزون الذاكرة وتمحى وتزول منها كل الأحداث والمعلومات ، ويفقد الإنسان القدرة على تذكر ما أصابه أو تعرض له ولو كان ذلك قد وقع منذ أيام أو أسابيع ، ويعجز الإنسان عن فهم واستيعاب ما يدور حوله حتى أنه قد ينسى الطريق إلى نزله أو مقر عمله ، أو المكان الذي وضع به مركبته ، وقد يصل به العجز درجة تفقده القدرة على معرفة أسماء إخوته وأولاده وأفراد أسرته . والإنسان الذي يفقد ذاكرته أو تضيع منه )الجوهرة( كما يعبر عن ذلك العامة لا يموت ولكنه يظل حياً يعش حياته البيولوجية داخل محيطه المكاني والزماني والاجتماعي الذي انعزل عنه في الواقع بسبب الأضرار التي لحقت بذاكرته وأفقدته القدرة على إدراك ماحوله ، وأعفته من مسئولية ما يصدر عنه من أفعال وأقوال.. ولكل جماعة بشرية ذاكرتها التي تختزن بها ما يعترض مسيرتها بالحياة من أحداث وملمات تفرضها الطبيعة والإرادة الإلهية ، أو نتيجة لتعاملها ، واحتكاكها مع جماعات بشرية أخرى مجاورة لها أو قادمة إليها من مكان آخر ، ورغم تفاوت وتباين تأثيرات تلك الأحداث بين جماعة بشرية وأخرى بتفاوت نوعها وشدتها وضررها ونفعها إلا أن كل جماعة بشرية مختزن بذاكرتها تلك الأحداث وتأثيراتها، وتتوارثها جيلاً بعد جيل ، والأجيال التي تحمل اليوم قصص الأنبياء والمرسلين والزعماء والقادة والمصلحين وقصص الحروب والغزوات ، والهزائم ، والانتصارات ، وسنوات القحط والجدب كانت قد تسلمتها من أجيال سابقة وتقع عليها مسؤلية تسليمها للأجيال القادمة، وفي بلادنا ليبيا وعبر مراحل تاريخها المختلفة تحمل محاولات الغزاة والمستعمرين للسيطرة عليها وموقف الليبيين منهم رفضاً وجهاداً ومقاومة أو عجزاً واستسلاماً حيزاً كبيراً داخل الذاكرة الليبية ، كما تحتل السنوات التي حل فيها الجفاف أو أصيب فيها الليبيون بالأوبئة أو الأمراض أو أشتد بهم الجوع والفقر حيزاً آخر؛ احتفظ به الليبيون وأرخوا به لمناسبات أفراحهم وأتراحهم فعام (خشوش الطليان) وعام (سواني بنيادم) ، وعام (تكسر الطليان) في قاهرة بسبها أو مرسيط أو القرضابية وعام (طلين فلان) وعام (خش الباندة علان) وعام (ضرب الطيار في الحمادة) ، وعام ، وعام وأعوام أخرى للهزة وأكثر ، والجدري والسمهود ، والثلج والربيع الكبير ، والفأر والجراد و عام الهجرة نحو سرت تحت وطأة الجدب والقحط . يتبع
■ عمر الناجم ديرة