في مثل هذه الأيام قبل أكثر من نصف قرن اغتالت الاستخبارات الأميركية الثائر الأممي أرنستو تشي غيفارا في بوليفيا، في محاولة للقضاء على حالة الرفض والتمرد للهيمنة الأمريكية التي اجتاحت أمريكا الجنوبية خلال تلك الفترة ووقف )العدوى الثورية( التي تسببت فيها الثورة الكوبية.. صورة غيفارا ما تزال حتى يومنا هذا رمزاً للتحرر العالمي من الاستعمار والثورة ضد الظلم والاستعباد، ومازالت العديد من الثورات في العالم الثالث تستلهم الأفكار والمبادئ التي ثار من أجلها غيفارا وكل رفاقه. لم تتحقق أمنية قاتل إرنستو تشي غيفارا بعد مرور ثلاثة وخمسين عاماً على اغتياله، أرادت الولايات المتحدة القضاء إلى الأبد على ظاهرة الثائر الأممي على الاستعمار والظلم، فبقي غيفارا أسطورة ملهمة لغالبية الثورات والانتفاضات في العالم، وعاش اسمه بين البسطاء أكثر مما عاش اسم قاتله .. الطبيب الأرجنتيني المولود عام 1928 كان أول من حمل خطة جدية لتوحيد بلدان أميركا اللاتينية منذ زمن الثائر اللاتيني الأول سيمون بوليفار، على دراجته النارية تعرف تشي على البؤس الموحد لدول أميركا الجنوبية، وخلال يوميات سفره الطويل في القارة اللاتينية، تكونت ملامح شخصيته الثورية.. أثناء وجوده في غواتيمالا، تجذرت نظرة غيفارا تجاه الولايات المتحدة بعد إسقاطها الرئيس خاكوبو أربينيث الساعي إلى تفكيك نظام الإقطاع في بلاده، هكذا استبدل تشي سماعة الطبيب ببندقية المقاتل .. في المكسيك، وجد في فيديل كاسترو الكوبي المنفي توأمه الثوري، وكوّنا معاً أول خلية تهدف إلى إسقاط نظام باتيستا العميل في كوبا . أدى غيفارا دوراً قيادياً حاسماً في معارك الثورة الكوبية التي أطاحت بالنظام الإقطاعي وأرست نظام الحكم الاشتراكي .. لم يكن غيفارا قيادياً عادياً في المناصب التي تبوأها في كوبا، كان عاملاً أكثر منه مسؤولاً كبيراً سواء في المعهد الوطني للإصلاح الزراعي أو في رئاسة البنك الوطني أو كوزير للصناعات، فقد رفض تلقي الأجور مقابل هذه المهام واكتفى فقط بأجرته الرمزية كقائد في الجيش .. طبيعته الثورية الدائمة أوصلته للاختلاف حتى مع الاتحاد السوفييتي ولا سيما بعد سحب موسكو الصواريخ البالستية التي نشرتها في كوبا بعد أزمة لامست الحرب مع واشنطن .. كان يردد دائماً “تتجمد الثورة وينتاب الثوار الصقيع حين يجلسون على الكراسي”، هكذا لم يستسغ تشي البقاء في سدة السلطة. وجد في أفريقيا ضالته الثورية الجديدة فكانت الكونغو محط النضال الجديد ضد الاستعمار. لكن النجاح لم يحالفه هذه المرة. اعترف الرجل بأنها قصة فشل بسبب غياب الثوريين المخلصين .. الإخفاق الإفريقي قاده للعودة مجدداً إلى أميركا اللاتينية. اختار بوليفيا لموقعها الاستراتيجي في القارة، بيد أن التجربة هذه المرة كانت أكثر دراماتيكية بعد قرار أميركي حاسم بالقضاء على غيفارا. استنفرت السي آي إي كل قواها وجندت ما لديها من عملاء في تلك المنطقة حتى تمكنت من الوصول إليه واعتقاله. أعدم الرجل في الأدغال وهو أسير مكبل بالأغلال وبقي مكان دفنه مجهولاً لثلاثة عقود في صورة تجسد مقولته الشهيرة: لا يهمني كيف ومتى أموت، المهم هو أن يحيا الثوار من بعدي، يملؤون الدنيا ضجيجاً، حتى لا ينام هذا العالم بكل ثقله فوق أجساد الفقراء والمحرومين.
■ خالد الديب