الثقافة التي نريد .. فريضة تائهة
لما كانت ثقافة أي مجتمع هي البوصلة والمحرك للفرد والجماعة نحو تحقيق الأهداف والوصول إلى الغايات، صار لزاما على الهندسة الاجتماعية للدولة أن تأخذ بعين الاعتبار وبكثير من القلق وعظيم الاهتمام والانشغال ضرورة التركيز على هذا العنصر تخطيطا وإعدادا وبرمجة وتمويلا لضمان انسياب حركة المجتمع نحو الأهداف المرحلية والاستراتيجية العامة بكل سهولة ويسر. الثقافة ليست مجرد قراءة وكتابة وأفكار ومعلومات يستعرضها الذين حازوا حظا من التعليم ونصيبا من المعرفة وساعدتهم الظروف ليكونوا مصدر إشعاع على الآخرين معرفة وعلما، لكنها منهج حياة وطرائق شتى في الإدراك والاستجابات، وهي عقلية الإنسان التي يستقبل من خلالها كل المدركات، ومنها يرسل كل الانفعالات والأحلام والتطلعات؛ مفجرا الطاقات الكامنة فيه بالخير أو الشر. الثقافة منظومة متكاملة من القيم والأخلاق والدين والقوانين والتصرفات والمهارات والأساليب وطرائق التفكير والعمل، وهي تراكم الموروث التاريخي المتجسد في الذاكرة والوجدان جماعات ووحدانا، في العادات والتقاليد والأشعار والأمثال ومظاهر الأفراح والأتراح ورموز الجماعة التي تقتدي وتتأسى بها فكرا وتجسيدا .. وبناء على ذلك ومن كل ذلك، ومن هذه المعطيات ؛ تتشكل ملامح المشروع الثقافي الحضاري الإيجابي المراد نشره وتسويقه وتوزيعه والدعاية له والتبشير به ومتابعته وإدراك مفاعيله. عند محاولة تفكيك المشروع الثقافي المتكامل إلى جزئياته وقطعه وحجاراته المكونة له، سنجد أنفسنا أمام عناوين رئيسية يمثل كل واحد منها حجر أساس لا غنى عنه في تشييد وإقامة وتأسيس حالة ثقافية لأية أمة أو جماعة. إن أمة لا تلتفت لهذه المفردات الرئيسية في هويتها الثقافية وتنصرف عنها ولا تلقي لها بالا ولا تبدي بها انشغالا، ستجد نفسها مع مرور الوقت تاهت بعيدا عن نفسها وضاعت عن مقاصدها واغتربت عن ذاتها وفقدت تميزها و ريادتها بين الأمم.كثيرا ما نسمع أحدهم يصف آخر أنه بلا ثقافة، وفي الحقيقة يكون هذا وقع في الخطأ ذاته الذي يصف فيه أحدهم آخر غيره لا يعجبه أنه بلا أخلاق . والصحيح أن الموصوف بأنه لا أخلاق له يمتلك في الحقيقة أخلاقا لا تعجب الواصف قد تكون سيئة وقد لا تكون . وهكذا فإن الموصوف بانه بلا ثقافة يحمل حقيقة ثقافة ليست تلك التي يتصورها الواصف. الثقافة حالة تتلبس كل إنسان منذ ولادته إلى أن يموت، وهي عنوانه وهويته الملازمة له طيلة حياته، وإذن أين هي الثقافة التي نريد؟ ومن هم طلائعها من مثقفين )بكسر القاف( أي مثقفين عضويين كما يقول «غرامشي»؟ وكيف السبيل إلى إنفاذها واقعا حيا نعيشه ونتنفسه نصبح ونمسي عليه؟ إننا إزاء فريضة تاهت عن مقاصدها.. لا أحد ينكرها .. لكن المعنيين بها، المفروضة عليهم عينا لا كفاية، عجزوا عنها، تقاعسوا عن أدائها، وبعضهم انصرف عن استحقاقاتها، لربما كانت لعنة التيه أصابت أرقى نخب المجتمع وأسماها.. فلم يتبق معنا غير قبض الريح. لم يعد أمام نخب الثقافة الجادين في ليبيا إلا الجلوس لطاولات المقاهي يندبون حظهم الذي ألقى بهم حيث براثن لا ترحم، تحبك وتقسو عليك، تسمعك ولا تقتدي بما تقول .. وتنفضك عنها، وتنفض عنك إذا ما أثرت غضبها، وخالفت هواها استفزازا وانتقادا. كل ما تبقى عندنا في حالة نخبتنا المثقفة مشهدية مهرجانية خطابية – مناسبتية – يستعرض فيها الشعراء والأدباء والكتّاب والرسامون والمطربون والملحنون والراقصون وغيرهم ما فاض وبرز من مواهبهم، ثم ينصرف الجميع من حيث أتوا إلى حيث التأثير الحقيقي على حركتهم التالية.
■ عبد المنعم اللموشي