المحامون يكذبون أيضا !
طلبت مني محاميتي -التي أسندت اليها مهمة الدفاع عن مطلبي من طرف إدارة المحاماة العامة أو الشعبية- أن أحضر الجلسة أمام القاضي وأن أطلب حجز القضية إلى الحكم في الجلسة القادمة.. كان خصمي هو مصرف الادخار والاستثمار العقاري الذي مازال يماطل أو يتلكأ في تمكين من خصص لهم شققا في المشروع الإسكاني بطريق المطار المحادي لحي الأكواخ أو عند نادي الخطوط، بحجة القوة القاهرة رغم مرور ما يزيد عن 15 عاما على تنفيذ وتجهيز المشروع. حضر محامي المصرف الجلسة وقدم للقاضية مذكرة مرافعته التي سألتني أن أقرر إذا ما أريد تخصيص الجلسة القادمة للرد على مذكرة محامي المصرف، أو أن تحجز الجلسة القادمة للحكم، فأجبتها بحجز الجلسة للحكم ليقيني أن المصرف ليس لديه حجة في رفض تسليم الشقة التي خصصها لي ودفعت مقدمها وحدد لي مكانها وفي أي طابق ورقمها.. وهكذا كان.. قررت القاضية أن تحجز القضية للحكم أو البث فيها الشهر القادم؛ غير أني عندما خرجت من المحكمة وبدأت أقرأ نص مذكرة محامي الدفاع عن مصرف الادخار صعقت بحجم الأكاذيب التي وردت فيها ومنها أن الشقة التي يطالب بها المدعي ليس لها وجود، وأن المشروع الذي وعد مصرف الادخار أن ينفذه ويخصص وحداته السكنية للمحتاجين إليها لم يتم الشروع في تنفيذه، وبالتالي فان المحامي يطلب من المحكمة أن ترفض الدعوى سيئة النية كما وصفها ويطالبني بدفع المصاريف…الخ. تحت الصدمة اتصلت بمحاميتي وأخبرتها بما ورد في مذكرة محامي المصرف وأنا مذهول من جرأته على الكذب لان مشروع عمارات طريق المطار ظاهر للعيان والشقق مسكونة بأناس اقتحموها حتى أن بعضهم راح يتاجر بها بيعا وشراء لأنهم يعلمون أن لا حق لهم فيها… استمعت محاميتي لما أخبرتها به ولاحظت مدى حيرتي ودهشتي فأطلقت ضحكة خفيفة وقالت لي لا تقلق المحامون هم هكذا عادة ما يكذبون من أجل أن يكسبوا القضايا التي يترافعون فيها.ذكرتني هذه الواقعة بقصة من الأدب العالمي عن الخيال العلمي كنت قرأتها قديما تقول في ملخصها إن محاميا ذهب لزيارة صديق له يعمل في محطة للإرصاد الجوية بمنطقة نائية أقصى القطب الشمالي المتجمد، وكانت هذه المحطة تدار آليا بالكامل وأنها لا تحتاج إلا لشخص واحد من العنصر البشري للإشراف على عملها..صديق المحامي كان مزهوا بعبقرية المحطة وكفاءة وقدرة الأجهزة الآلية على تنفيذ مهامها بكل دقة واقتدار، وقد أسرف في مديحها أمام صديقه المحامي الذي بدى منزعجا من الثقة المفرطة التي يبديها صديقه في الكمبيوترات أو الحواسيب التي تدير المحطة..لكن صديقه استمر في إظهار المزايا والقدرات الفائقة لبراعة للآلات التي تقوم بكل شيء في المحطة من التهوية إلى التدفئة إلى الإضاءة إلى إعداد الطعام وتوليد الطاقة والتواصل مع الأقمار الصناعية وتحليل المعلومات وتزويد المحطات الأخرى بخدماتها وبأعمال الحراسة والأمان ولا يعجزها شيء مهما كان..هنا انبرى المحامي إلى صديقه متحديا له بالقول ما رأيك لو أني أصبت أجهزتك الخارقة هذه بالعطب والإعاقة والعجز والإعياء، رد عليه صديقه لا تجرب، مستحيل لن تفلح، عبثا تحاول، سوف تخسر، وأضاف: إن أجهزتنا هذه تمتلك من العلوم والمعارف والخبرات والإمكانيات ما يعجز عنه البشر، ولها مستويات عدة تتدرج إلى أعلاها علما وقدرة وعبقرية.. وإذا ما عجز مستوى ما عن حل أية قضية أو مشكلة تعرض له، أحالها إلى المستوى الأعلى منه ليتمكن من إيجاد حل لها.غير أن المحامي أصر على التحدي ما دفع صديقه إلى قبول تحديه شرط أن لا يقوم بعمل مادي تخريبي للآلات، فوافقه المحامي على ذلك، وطلب منه أن يقوده إلى المكان الذي يمكنه أن يتواصل فيه مع الآلات ليطرح عليها مشكلته.أدخله صديقه إلى حجرة مكتظة بالأجهزة والشاشات حيث يمكنه أن يتحدث إليها شفهيا بما يريد، ووقف الصديق خارج الغرفة يراقب من حاجز زجاجي..قضى المحامي وقتا قصيرا داخل الغرفة يتحدث إلى الآلات ثم خرج مختالا في مشيته، سأله صديقه هل انتهيت؟ هل أجابتك الآلات عن قضيتك أو مشكلتك أو سؤالك؟قال له المحامي لقد طرحت قضيتي أمام آلاتك لكني مازلت انتظر الجواب.بعد برهة وهما يتحدثان بدت الأضواء تخفت تدريجيا وأخذ الظلام يعم المكان، وأخذت درجات الحرارة في الانخفاض بشكل متسارع والتهوية تتناقص، لقد بدأت الآلات تتوقف عن العمل..صرخ الصديق في المحامي ماذا فعلت؟ أنت تدفعنا إلى الموت؟ والآلات لا تستجيب لوظائفها !ماذا قلت لها؟نفخ المحامي صدره مزهوا مبتهجا بانتصاره وقال لصديقه هل تقر لي بالانتصار؟حسنا ولكن قل لي ماذا قلت للالات ؟ قال صديقه بكثير من القلق والتوتر.أجابه صديقه المحامي ببساطة استخدمت مع آلاتك ما يعرف عندنا بالمتناقضات المنطقية إذ قلت للجهاز: أنا محامي، والمحامون دائما يكذبون، فهل أنا كاذب أم صادق؟ وليس أمام أجهزتك يا صديقي إلا جواب من اثنين إما أني صادق فتتناقض مع مقولة إن المحامين دائما يكذبون، وإما أني كاذب، ما ينفي معه مقولة كوننا كمحامين دائما كاذبين، وعلى أجهزتك ذات المواصفات الخارقة والقدرات الفائقة أن تخرج لنا بحل لهذه المتناقضة المنطقية.. وأردف المحامي يقول لصديقه لقد بدأت أشعر بالبرد والاختناق فاطلب من آلاتك أن تعود للعمل وتشعل الأضواء وتعيد التدفئة للمكان فأنا مازلت أرى بعض النقاط الضوئية على شاشات أجهزتك تعمل.. لكن صديقه الذي وقف جامدا قال له لقد انتهينا، يستحيل على أن أعيد الآلات إلى عملها المعتاد لقد أدخلتها جميعها في متاهة لا خروج منها، وأن كل المستويات تركت وظائفها معطلة ودخلت في اجتماعات مغلقة لكي تبحث لك عن حل لهذه المتناقضة، ولا أظنها ستفعل قبل ان نموت اختناقا وبردا.. وتناقصت درجات الحرارة بسرعة رهيبة إلى ما دون الصفر وانعدم الهواء عن تلك المحطة المحصنة، ومات
■ عبد المنعم اللموشي