من غير المستبعد أن تكون الدهشة قد علت وجوه الذين طالعوا ، قبل بضعة أسابيع ، الإعلان عن اعتزام النيابة العامة تنظيم معرض دولي للكتاب بطرابلس ، وقد افتتح فعلا يوم الأربعاء الماضي ، وتستمر فعالياته حتى موفى السادس والعشرين من شهر أكتوبر الجاري. لقد رأى كثيرون في ذلك مخالفة لما جرت عليه العادة من أن الجهات ذات العلاقة بالشأن الثقافي ، عامة ، وبأعمال الطباعة و النشر، بوجه خاص ، هي التي تختص بتنظيم معارض الكتب ، وهي التي تملك الخبرة و الدراية بذلك ولديها ما ينبغي من علاقات بدور النشر المحلية و الأجنبية التي توفر للمعرض حاجته ، كما لا يعدم أن تتوفر على الإرث المناسب من اللوائح التنظيمية ، والقواعد المرعية ، والترتيبات المتبعة ، في شأن إقامة هكذا حدث ، و ربما ذهبت شكوك البعض حيال هذا الأمر إلى حد اعتبار هذه المبادرة بمثابة إدانة صارخة ، واتهام صريح بالتقصير يطال كل الجهات المعنية ، وكافة الأشخاص الموكل إليهم تصريف شئون الثقافة ، وإدارة مؤسساتها بالدولة الليبية ، والواقع أن مرور ما قد يزيد عن عقد
كامل من دون معرض دولي للكتاب في ليبيا ، هو ما يرسم علامات استفهام أكبر، ومن شأن هذه السنين العجاف أن تجعل من متكأ التذرع بالاعتبارات الأمنية ، و تأرجح الاستقرار، مجرد شماعة تنوء بأثقال العجز عن القيام بمتطلبات الوظيفة ، و الفشل في تحمل تبعات التكليف. بالنسبة لي ولكثيرين غيري ، و قياسا باستعادة الفرصة للتجوال بين آلاف عناوين الكتب
، في مكان واحد ببلدك ، وفي المتناول بلوغه ، فإن المناكفات التي قد تكون أنجرت عن هكذا مفارقات ، لن تكون ذات بال يشغل البال ، وفي ظني أن أولوية الانشغال ، هنا ، ستكون بشأن حجم ما ستحصل عليه من تخفيضات تعينك على حمل عبئ ما أتيح لك حمله مما راق لك اقتناؤه من كتب و مؤلفات ، و لا أخفيك أن ذلك ، في ضوء حقائق لا تخفى ، إضافة لإدراج للروائية ، القاصة / عائشة إبراهيم بشأن جدولة حوارية تديرها بمشاركة د. كريمة بشيوة ، ود.مفتاح قناو، ومنصور بوشناف ، حول دور الثقافة فنونا وآدابا في الحد من الجريمة في المجتمع ، ضمن فعاليات المعرض ، فلم يكن هناك من أسباب أقوى قادت خطاي صبيحة السبت نحو معرض النيابة العامة للكتاب بمعرض طرابلس الدولي. وددت لو أني أجد كتيبا إرشاديا ، مثلا أو لوحات دالة تبين ما بكل قاعة من القاعات الخمس الكبرى ما يحتشد بها من دور نشر ، وطبيعة اهتمام كل دار، والصنف الأبرز لإصداراتها ، فلا تجد نفسك مجبرا على تفحص ما يكد بصرك من أرفف وكتب وعناوين ، والدوران حول نفسك مرات ومرات قبل أن تعثر على ضالتك وقد كانت أقرب إليك ، و ربما كان الكتاب والمؤلفون ، هم أول من تفطن لغياب معلومة كهذه ، فعمد كثير منهم لإدراج ما يشبه الإعلان على حساباتهم بمواقع التواصل الاجتماعي ، مفاده )كتابي هنا ( و لأن ” صندوق الرمل ” كان من ضمن ما خططت لاقتنائه ، فلم أجد بدا من الاستعانة بصاحبته الكاتبة عائشة إبراهيم ، فدلتني إلى حيث وجدته.
السيدة عائشة إبراهيم ، وبأسئلتها الموضوعية والمباشرة كانت كصوت للحكمة يتوسط أيقونتينة للحق والجمال ، فأدارت حوارا شيقا جمع بتناغم ملحوظ بين الباحثة الأكاديمية المرموقة ، د. كريمة بشيوة ، و صنوها البارز في مجال القانون
، و بحوث أركان العدالة ، د. مفتاح قناو، ولقد عوض كلاهما عن غياب السيد بوشناف باقتدار على محدودية العدد لم تفلت السيدة بشيوة أيا من أسماع الحاضرين ، فحلقت عاليا بتجليات قاربت حد الوجد في مناطق نفوذها العقلي ، حيث
فصول التاريخ الإنساني وجدلية التنافس بين الصراع المدمر، و التحاور بالحسنى ، وباستنطاقها الفن بصفته روحا للجمال ، وكوسم يميز هوية الحضارة. و تقاسم معها ، السيد / قناو ، بما أضاءه من دهاليز تاريخ التشريعات الليبية ، و ما عرج عليه من حدائق خلفية لفلسفة القوانين ، وما استشهد به من تأثير متبادل لابين الفن والأدب من جهة ، والدساتير و القوانين من جهة أخرى ، و ضرب لذلك مثلا بما أدخل من تعديلات على مدونة قانون الأحوال الشخصية بمصر، تحت ضغط الرأي العام الذي شكله تفاعل الجماهير مع ما تناوله الفيلم السينمائي (أريد حلا) للراحلين فاتن حمامة ورشدي أباظة؛ كما أتى المتحدث على ذكر شواهد أخرى كان لها تأثير مماثل. الندوة برمتها ، بدءا من دلالة العنوان ، وما وجهته المحاورة من أسئلة ، و ما تفضل به ضيفاها من إجابات بدت و كأنها تعكس بشكل لا لبس فيه فلسفة الحدث كله ، وإن لم أجاف المعنى كثيرا ، فقد أجزم أن النيابة العامة في ليبيا ، وهي طرف حيوي رئيس في منظومة إقامة العدل و تحقيق الإنصاف بالمجتمع ، باتت على قناعة تامة بأهمية ومحورية الدور الذي ينبغي أن تلعبه الثقافة ، لا في صياغة القوانين ووضع التشريعات فحسب ، وإنما أيضا في نشر الوعي و التحصين مما تعاقبت عليه القوانين و التشريعات ، و قد يكون ذلك تحديدا ما جعلها لا تنتظر أن تستفيق
ضاحية ” الهضبة ” من سباتها ، بل وربما بات موثوقا لديها أن المقبرة المسماة ” سيدي حسين ” قد تمددت إلى خارج أسوارها.
■ بشير بلاعو