مقالات

(نافذة) ..

نعيم تحت الأقدام

من يدرك الحقيقة ويعرف من أين تؤكل الكتف سينعم بنعيم لم تره ع، ولم تسمع به أذن، ولم نيخطر على قلب بشر. وحقيقة أكل الكتف هنا ليست في العثور على كنز أو اكتشاف بئر للنفط، أو اغتنام الفرص للحصول على منصب مرموق، أو الفوز برضا المدير العام للمؤسسة أو الشركة، أو عقد صفقة مربحة من صفقات الصيانة والترميم الباهظة، بل حقيقة أكل الكتف هنا تتمثل في الفوز برضا الوالدين وحبهما . لذلك، على الإنسان أن يسعى بكل تفانٍ ليخفض لهما جناح الذل من الرحمة، ويقول: “رب، أرحمهما كما ربياني صغيرًا”، مع تقديم الطاعة والولاء والإحسان، وخاصة مع الأم التي هي منبع الحنان والحب والتضحية. فمن يسعى لنيل ذلك ويبتغيه، فليسرع إلى جنة الدنيا، ويرتمي في أحضان الأم، ويقبل جبينها وقدميها، ويعمل جاهدًا على إسعادها والقرب منها ليغتنم القبول والرضا وحسن الدعاء . ومع كل هذا الخضوع والانصياع والطاعة لها، وكل ما يقدمه من أعمال جليلة، فهو لا يستطيع الوصول للحظة خوف واحدة من لحظات ترقبها وانتظارها لعودته، ولا يضاهي حركة واحدة من حركاته وهو جنين ((يصك)) بقدميه في أحشائها، وهي تحمله تسعة أشهر خلقًا من بعد خلق، ثم فصاله في عام ترضعه حليبًا نمركزًا كام شافيًا نافعًا لا يضاهيه حليب الدنيا ابأسرها . وما يقوم به من إحسان تجاهها لا يعادل سهر الليالي، ولا تعب العناية والرعاية والحرص والاهتمام، بداية من مراحل خلقه وهو جن، ثم نوهو طفل رضيع، وطفل يحبو ويخطو خطوات الشاب اليافع، وفتى قوي طموح يتوق إلى الدنيا، ورجل يعتمد عليه. وحتى لو بلغ قوة الرجال، وأصبح أبا، وبيضت لحيته ورأسه، وظلت عيناه تبيضان، يبقى حبها وخوفها عليه متواصلين ومتجددين بدون مقابل، وبدون حوافز، وبدون مكافآت.. نحن جميعًا مقصرون تجاه والدينا.. نخرج باكرًا، ولا نراهما إلا عند المساء، وربما نعود ونخمد للنوم، ولا نراهما إلا في اليوم التالي. وهناك من يلتقي بهما مرة في الأسبوع، وآخر مرة في الشهر، وربما مرة في السنة . وهناك من يرسل أمه إلى ابنتها لترعى شؤونها في بيت الزوجية، أو يضعها في دار العجزة بحجة أنها كبرت وعجزت، وأصبحت تخرف وتهذي، وهو يريد أن يرتاح في قيلولته وينام بهدوء في حضن زوجته، ولا يحتمل سعال أمه ومناداتها، ولا يقبل أن يلاحظ زواره وضيوفه الأكابر من الشخصيات المادية منظر أمه العجوز الشمطاء، كثيرة التجاعيد، ذات الأقدام والشفاه المتشققة، والملابس المهلهلة.لا يقبل كل ذلك، خاصة بعدما صار كبيرًا بهندامه ومركزه، فهو لا يريد أن تكون له أم في سن الشيخوخة بظهرها المقوس وجسدها كثير العلل والأوجاع. نسي وتناسى ح كان في نالمهد صبيًا غارقًا في عفونته ، فتقوم هي بكل رضا ولطف برعايته وحفظه، فتمسحه وتنظفه، وتعطره، ومن ثم تقبله، وتكمل إرضاعه، وتهز به لينام .

■ عبدالرزاق يحيى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى