من بين الابتلاءات القاسية، التي يتعرض لها الإنسان في حياته الطويلة، ويكون لها ردود فعل غير عادية على حالته النفسية والحسِّية فقدان أحد حواسه الخمس. ولعل فقدان البصر يُعدُّ من أشدِّها وقعا وألما. ويُحاول الإنسان المبُتلى أن يتأقلم مع هذا الفقد الصَّعب، وأن يتعايش معه في صبر وأناة وتحمُّل. ومن حكمة الخالق، سبحانه وتعالى، أن يعوض المبتلى بهذه العاهة بقوة وصفاء وحَّدَّة في حاسِّة السَّمع، التي تُصبح، في هذه الحالة من أهم وسائله المتُاحة للتعرف على محيطه الذي يعيش فيه. وحيث أنَّ حاسَّة السَّمع من أهم أدوات الموهبة الموسيقية، فهناك الكثير من المكفوفين، الذين فقدوا بصرهم منذ الولادة أو فيما بعد قد برعوا وأجادوا في هذا المجال الرائع الجميل: عزفا، وغناء، وتأليفا وتوزيعا، وتحليلا. ولعل ومن أهمهم في بلاد العرب الفنان المصري المرحوم عمَّار الشريعي، الذي يُعدُّ علما من أعلام الموسيقا العربية المتُقنة، وموهبة غير عادية في ابتكار وتأليف وتوزيع ألحان الموسيقا التصويرية، وتلحين الأغاني والأناشيد المختلفة عجز الكثير من الموسيقيين المبصرين الإتيان بها والوصول إلى مستواها المتقدم جدا. أذكر أني شاهدته لأول مرة في إحدى قاعات المعهد العالي للموسيقا العربية بالقاهرة عام 1974، أثناء دراستي بالمعهد، وكان يُجهز آلته الأورغ الإليكتروني للمشاركة في تدريبات إحدى أغاني المطربة المرحومة شريفه فاضل، والغريب أنه كان أول الواصلين من الموسيقيين المشاركين في التدريبات، مما يدل على إنضباطه واحترامه للمواعيد، وقد استطاع خلال مسيرته الفنية الطويلة أن يتعامل مع التطورات العلمية الرَّقمية الحديثة، التي لحقت هذه الآلة الموسيقية الغربية، وقد استطاع أن يبتكر طريقة لاستخراج أرباع درجة النغم المستعملة في الموسيقا العربية والشرقية سجلته الشركة اليابانية المصُنَّعة باسمه تخليدا له ولموهبته الفذَّة. رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأدخله الجنة بسلام …
■ د. عبد الله مختار السِّباعي