من حسن حظ الصحافة أنها ولدت من رحم التقنية، ولولا ابتكارات التقانة لما عرفنا الصحافة بمفهومها الحالي، ولما تمكن «نابليون بونابرت» في عهد «محمد علي» من جلبها إلينا عبر حملته العسكرية الشهيرة على مصر وإصدار صحيفة التنبيه، فقد تلاحقت موجات تحديث الصحافة ابتداء من النسخة الأولى «صحافة جوتنبرغ» منتصف القرن الخامس عشر التي أتاحت طباعة عشرات آلاف من الصفحات الورقية تسيدت واحتكرت بها أسواق المعرفة والأخبار في العالم ربما عبر قرنين من الزمن، في زمن سلطة الكنيسة، وقد تجلت ملامح فضاء الصحافة أكثر فأكثر عندما وصلت تقنيات الصحافة بدايات تسعينات القرن الماضي إلى اختراع الويب«1أنا أشاهد» وإنتاج صحف المواقع الإلكترونية أو صحافة «تيم برنارزلي»، حيث تم تبني أنظمة النشر الإلكتروني بالتدرج، ثم انتقلت بعد فترة وجيزة الموجة إلى صحافة «أنا أشارك» والتحول إلى بداية عصر الرقمية الويب 2 الذي أنتجه «تيم أورلي» وعقب أعوام 2006 و 2007 وصلت بنا التقانة إلى حقبة أيامنا هذه وصحافة «أنا أتفاعل» ويب 3 لمنتجها العبقري «تيم برناردز لي» حيث شهدت هذه المرحلة غياب الحدود الفاصلة تماما بين المرسل والمستقبل أو المستقبل والمرسل أو ما يعرف بتكامل دائرة الاتصال أو العملية الاتصالية، ولأن الصحافة صنيعة التقنية فنجدها اليوم تتعامل بأريحية مع أنظمة الذكاء الاصطناعي والريبوت والخوارزميات (والبلوك تشن) بإنتاج آلاف القصص الإخبارية في زمن قياسي ومذهل. لكن تبقي إشكالية الصحافة اليوم رغم تزاوجها وتأقلمها المستمر مع التقنية منذ الظهور الأول لها قبل أزيد من ثلاثة قرون هو كيف تتعامل وتشكل وحدة انسجام مع وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تنافس الصحافة في وجودها، فهي مصدر تهديد خطير لها ولكل وسائل الإعلام الجماهيري في حقيقة الأمر، ومكمن الخطورة فيما أتصور أن الاتجاه يسير سواء عبر ما طرحته شركتا جوجل وميتا «الفيس بوك« وهما أكبر من يتسيد سوق الإعلان في عالم الميديا اليوم، إلى تبني أشكال صياغة تحرير الأخبار والقصص التي يكتبها الناس بطريقة غير مهنية وبلهجاتهم العامية واعتمادها بديلا للصيغ التحريرية المهنية المتعارف عليها المكتوبة باللغات الرسمية في الصحف والمواقع الإلكترونية والإذاعة والتلفزيون وبثها في نشرات وقصص عامية مغرقة في المحلية، اتجاه لا أتصور أن الصحافة الورقية والمواقع الإلكترونية قادرة على مجابهته أو قبوله، إلا إذا تبنت وأوجدت أفكارا وحلولا أخرى تزيد من عمر بقائها ولو قليلا.
■ د . عادل المزوغي