عرفت بنغازي مبكرا من خلال أحاديث والدي، الذي زارها في مطلع ستينيات القرن الماضي، باحث عن مستوى حياة أفضل، وقد ظلت حكاياته عن طيبة أهلها وكرمهم عالقة في ذهني، وحن كبرت التحقت بجامعتها للدراسة، وفي ردهاتها كانت لي ذكريات ومواقف ونجاحات، كما كانت لي صداقات متميزة لازلت احتفظ بها حتى الان. بنغازي بالنسبة لي ليست مجرد مدينة عابرة كجل المدن التي زرتها، وجامعتها تظل استثناء عن كل جامعات الدنيا، الأسبوع الماضي عدت إليها قادما من مدينة اجدابيا، حيث شاركت في المؤتمر العلمي الثاني الذي نظمته كلية الإعلام والاتصال، فوجدتها وقد بدأت تتزين وتتجمل وتنفض من على وجهها غبار سنوات الظلام، الذي حاولت الجماعات المتطرفة ان تلطخها به، رأيت بنغازي في شكل ورشة عمل متواصلة، طرق وكباري وشوارع فسيحة، واسواق فخمة ومحلات تجارية على مستوى عال، ونهضة عمرانية لم تعرفها المدينة طوال عهدي بها. رأيت في بنغازي مخططات لمشروعات ضخمة ستنطلق قريبا، مطار حديث جنوب المدينة بحوالي اربعن كيلومتر، وخطوط للسكة الحديدية، وتوسعة في الطرق المزدوجة، وجسور لفك الازدحام، وتجديد للقرية السياحية التي تطل على البحر من ناحية، وعلى الجامعة من ناحية أخرى، في مشهد غاية في الرمزية والجمال . أما الجامعة وما أدراك ما الجامعة، فتلك قصة أخرى، فبعد الخراب الكبير والمريع الذي أصابها خلال فترة الحرب على الدواعش، عادت للحياة من جديد، وأذكر أنني بكيت بحرقة قبل عامن حن أخذتني قدماي ذات زيارة ناحية كليات الآداب والقانون والاقتصاد، حيث مرتع الذكريات، وسنوات الشباب، وحكايات الرفاق، وقاعات ومدرجات العلم والمعرفة، وحزنت يومها كثيرا، وتسألت في نفسي هل ستعود جامعتنا إلى عهدها البهي وسنوات مجدها وتميزها؟ وأعترف بأنني قد وقعت حينها في فخ اليأس، وبدأ لي الأمر ضربا من الخيال، كان صدري يضيق، وحلقي يجف، والحنن يعذبني، وكنت وحيدا أبحث عمن يسندني، كانت الجامعة لحظتها أشبه بمقبرة موحشة خربة، وكنت كمن يحمل نعشه على كتفيه . كان هذا قبل نحو عامن، أما ما شاهدته قبل أسبوع فهو أمرا مختلفا تماما، حيث شركات الصيانة لا تتوقف عن العمل، ومداخل ومخارج الجامعة صارت في صورتها النهائية، والإدارة العامة تمت صيانتها، والكليات بمدرجاتها وقاعاتها ومعاملها تقترب من الجاهزية، وكذلك المكتبة المركزية، والحدائق والمسطحات الخضراء المحاطة بها، لقد نفخ في روح جامعتنا، وعادت لها الحياة ثانية، وبعثت من جديد . وبعد .. هكذا بدأت لي مدينة بنغازي، وهكذا رأيتها.
■ أ.د. مسعود التائب
