وذكرهم بالغارة المنسية ..
لم يسبق أن واجهت الدول العربية «ما بعد العدوان الثلاثي 67 على مصر عبدالناصر« ، عدوانا عسكريا واعتداء سافرا ، مثلما حدث ليلة 15 ابريل 1986 على المدن الليبية .. حيث توجه الطيران «الأميركي – البريطاني» لقصف باب العزيزية وبن عاشور وطريق السكة وسيدي بلال بطرابلس ومواقع أخرى ببنغازي و سرت . لم يفرق الطيران العسكري بن الشرق أو الغرب الليبي ، تعامل مع كل الأهداف كونها عدوا وهدفا واحدا ، فهكذا يرى العالم ليبيا، حتى وإن اختلف وتخالف أبناؤها اليوم ولنا في ذلك عبرة. كنت يومها دون السن القانونية ، طالبا بالمرحلة النهائية الثانوية ، وقد بدأت مشواري الصحفي قبيل عامن بمجلة جيل الغضب التي كانت تعني بالكتاب والصحافين والمواهب الثقافية والأدبية الشبابية ، وأكتب بن الفينة والأخرى بعض المقالات بصحيفتي الجماهيرية والزحف، بدعم وتشجيع ومساندة كوكبة من فرسان الكلمة فيهما ، ممن كانت مقالاتهم تطيح بأمناء ومسوؤلين وعسكريين كبار ومنابع الفساد دون تحفظ ، وبكل حرية وقوة الكلمة والصحافة. المهم حينها كما أذكر . وجه الكاتب والأديب «سيد قذاف الدم» الذي تعود الكتابة والنشر بصحيفتي الجماهيرية والزحف ، «وكان حينها يشغل آمر كتيبة الساعدي الأمنية في سرت»، دعوة للصحافين بزيارة سرت و القيام بجولة على طرد بحري على طول خط (32.5) البحري، وترسيم الحدود البحرية الليبية في خليج سرت ، بعد المواجهة الجوية بن الطيارين الليبين وطيارين أمريكان فوق مياه الخليج لتأكيد السيادة والسيطرة والنفوذ الليبي على مياه الخليج البحرية .. استعد فريق مجلة جيل الغضب لتلبية الدعوة مع الزملاء بصحفيتي الجماهيرية والزحف .. فاستقلينا سيارة (504) شعبي عام الخاصة بالمجلة ، في حن ركب الزملاء من الصحف الأخرى «الميكرباص الخضراء» فى رحلة تاريخية لازال صداها وأثرها قائما حتى اليوم .وصلنا مدينة سرت بساعة متأخرة جدا من الليل ، وكان في انتظارنا على مشارف المدينة غربا سيارة من كتيبة الساعدي لتدلنا على الطريق ومكان إقامتنا، فقادتنا إلى فندق وجدة الهادي ، حيث ولجنا مع مضيفتنا «الرائد نجية» إلى المطعم لتناول العشاء رغم تأخر الوقت. في اتصال عبر هاتف مطعم فندق وجدة ، كان «سيد قذاف الدم» يعتذر عن عدم وجوده لاستقبالنا لظروف طارئة تمر بها تلك الساعات ليبيا ، مؤكدا على أن نلتحق به في موقعه بعد العشاء أو صباحا ، وما كان العشاء ليطيب لكل الزملاء بعد تلك المكالمة ، فأبى الجميع إلا الالتحاق به فورا حيثما كان .. وسارع الزملاء الأفاضل ، بمطالبة «الرائد نجية» لنقلنا إلى حيث تواجد «سيد» ، واستجابت لنا ، فوفرت لنا حافلة عسكرية من حافلات كتيبة الساعدي للذهاب إلى (أبوهادي) بعد تشاورها مع سيد «رحمه الله» وإبلاغه إصرار وعزم الجميع بالالتحاق به. وصلنا إلى موقع الانتشار العسكري المقرر ، ووجدنا «سيد» أمام خيمته البسيطة منتظرا مشرهبا بشوشا كعادته ، رحب بنا جميعا بكل حفاوة ، داعيا إلى دخول خيمته التي كانت تحتوي مذياعا بسيطا وهواتف عدة وجهاز اتصال لاسلكي .. وكان أمامها موقد نار لإعداد خبز الجمر التي لازال طعمها طريا في أفواهنا. التقانا «سيد» ليخبرنا ان ليبيا ستتعرض إلى هجوم جوي يستهدف طرابلس وبنغازي وسرت ، وأن بعض الدول الأوروبية الصديقة أبلغت السلطات الليبية بذلك ، وإننا نستطيع أن نتابع المجريات من خيمته وبرفقته ، ويمكننا العمل أيضا بالتواصل والاتصال بالإذاعات المسموعة الليبية والكتابة إليها مباشرة وأن نسمع القنوات وخاصة صوت الوطن وصوت عبدالحميد امبيرش الذي لازال ذويه التعبوي صادحا في ذاكرتنا. كانت ترد أحيانا اتصالات خاصة عبر الهاتف إلى «سيد» ليخبرنا أنه تم قصف بيت معمر القذافي بباب العزيزية و مبان بطريق السكة وبن عاشور بطرابلس، وأن الدفاع المدني يهرع للإسعاف في المواقع، وتوقع إصابات العشرات من المدنين والأسر الآمنة في بيوتها، ومكالمات أخرى من بنغازي لاحتمال ضرب الميناء البحري والمطار ، أو تصدي الدفاعات الأرضية لبعض الهجمات (ليلة صعبة ومراس صعيب) . كان الزملاء يكتبون ويرسلون ما تم كتابته إلى القنوات المسموعة .. وكان البعض منهم يتصل عبر هاتف سيد ليدخل على البث المباشر ويتحدث لرفع الروح المعنوية والصمود .. واستمر الوضع بمتابعة الأخبار والأحداث طيلة ليلة 15 إبريل ويوم 16 إبريل. إلى أن قرر الجميع بعد التشاور أهمية العودة لطرابلس والالتحاق بأعمالهم والقيام بدورهم الصحفي من مقرات الصحف و من مواقع القصف مباشرة . نال كل الصحافين المشاركين بعدها (نوط الواجب) «درجة أولى» ممهورا بتوقيع القائد الأعلى لموقفهم الوطني والصحفي والثوري النضالي .. يومها .. التحق كل العسكريين الذين كانوا متغيبن أو فارين عن الالتحاق بوحداتهم ، وتطوع أغلب المدنين للدفاع عن بلادهم سواء مع العسكريين أو فرق الإسعاف والطواري والهلال الأحمر وشرطة المرور أو لضبط الأمان بمناطقهم السكنية .. والتف الشعب حول قيادته وحول نفسه دون اعتبار للاختلاف أو الخلافات السياسية، أو التوافق والولاء والوطنية ، بل لأن ليبيا تجمعهم جميعا كجسد واحد. لقد كان العدوان سابقة دولية وبلا شرعية دولية للاعتداء على بلد ذي سيادة أو للإطاحة بقيادته السياسية خارج قواعد القانون الدولي ، راح ضحية الاعتداء عشرات من الآمنن في بيوتهم من أطفال ونساء وعجزة وشيوخ ورجال، ومن المواطنن المدنين الكثير ، وبعض العسكر الذين كانوا في مواقع عملهم ، وفشل في الإطاحة بنظام الدولة ولأن الشعب كان يلتف ويلتحم ويتآزر مع بعضه البعض . في ذكرى هذا العدوان نستذكر الأبرياء الضحايا ونحسبهم عند الله من شهداء الوطن ، وندعو لهم بالرحمة .. ونتألم حقا أن نرى اليوم حال ليبيا ، وتقاتل الإخوة والأهل بينهم ، والخلاف والتمزق في أحوالهم وتكوينهم .. فهل نعتبر ونسترحم تلك الأيام التي أبى فيها الليبيون رؤية الدم الليبي يراق ويستباح وتنتهك سيادة بلاده وحرمتها هل تذكرونه ؟!.
* د. الزبير غيث