محلياتمقالات

من ينصف المتقاعد

ذات يوم شاهدت برنامجا لوداع معلم متقاعد بث على أحد القنوات العربية ..حينها شرعت في المقارنة بين ما شاهدته من عواطف جياشة وصلت إلى حد ذرف الدموع من قبل الطلاب ..إضافة إلى باقات الورد التي كانت تقدم إليه من أبنائه الطلبة .. واندفاع الكثير منهم لاحتضانه معبرين بذلك عن أرقى مشاعر الوفاء والعرفان بالجميل .. عادت إلى مخيلتي يوم بلوغي سن التقاعد كل الذكريات التي امتدت على مدى ثمانية وثلاثين عاما قضيتها في مجال التعليم وكنت فخورا بكل ما أنجزته خلال هذه المدة الطويلة في رحاب أنبل مهمة وأقدس وظيفة قضيت فيها زهرة الشباب وأجمل سنوات العمر …يوم أن تسلمت رسالة إشعاري ببلوغي سن التقاعد جلست وحيدا على مكتبي بالبيت وأنا أحدق في سطورها التي كنت أخالها جروحا تتوغل في أعماق الروح .. حينها شعرت وكأن تلك الرسالة بطابعها الرسمي تطردني بصفاقة من زمن عشته ومازلت أعتبره أجمل الأزمنة وأقربها إلى قلبي حينما كنت محاطا بالطلبة أمارس دوري في تنشئة جيل سيكون عماد الوطن ورمز ازدهاره يومها جلست وعاصفة من الحزن تهزني من الأعماق وخواطر شتى تنتابني وأنا استعرض شريط الذكريات من لحظة استلامي لقرار تعيني حتى لحظة تقاعدي بكل ما في هذه المرحلة من عمري من فرح وأسى … وأمل وألم … وطموح وإحباط أحيانا ولكني كنت أعود منه متسلحا بأهمية دوري كمعلم يعمل على بناء جيل سيقود البلد مستقبلا إلى مواقع متقدمة من الرقي والازدهار . ما زلت أذكر تعييني مدرسا بالقرية المجاورة لقريتنا لأصبح زميلا لأساتذة لي بآخر صف بالمرحلة الابتدائية كنت أقطع المسافة بين القريتين سيرا على الأقدام ..واسوأ فترة فيها كانت خلال فصل الشتاء عندما تغيب الشمس مبكرا ..وتزحف الظلمة سريعا وأنا على الطريق تتعثر خطاي بأحجاره .. وتغوص قدماي أحيانا في حفرة قد لا أنتبه إليها وسط تلك
العتمة التي تضيع فيها معالم الأشياء . وأخيرا قررت الإقامة بالقرية التي بها المدرسة لأسكن (داموس) محفور تحت الأرض وحيدا لا أنيس لي .. أطهو طعامي .. وأغسل ثيابي بنفسي ..لأستلقي في الليل على فراش متآكل الحواف أتأمل سقف الداموس والجدران التي تتراقص عليها ظلال ضوء مصباح الكيروسين تمضي ذبالته بوهن وترشح بكل صمت الأشياء من حولي … صور وحكايات .. وزمن مضى ومعه ربيع العمر وأجمل أيامه .. إلى أن وصلت سن التقاعد كان شعورا بالحزن يملأ قلبي وأنا أتطلع لسطور الرسالة وكأنها نعي قبل أوانه .. أو أن حياتي قد وصلت إلى خط النهاية .. فيما من يستلم قرار التقاعد بالدول الأخرى لا يرى فيه إلا بداية حياة جديدة قد بدأت للتو . عندما تقاعدت لا أحد سأل .. ولا كلمة شكر سوى ذلك الوجوم الذي رأيته على قسمات الزملاء عندما ذهبت لوداعهم في اليوم التالي . حياة المتقاعد لدينا أصبحت مشحونة بالكثير من التعاسة لأنه سيعيش فراغا قاتلا للروح ومحبطا للهمم .. فيما نجد إن الكثير من الدول تستعين بالمتقاعدين ليكونوا مستشارين لدى جهة عمل تدخل في نطاق تخصصهم . حاليا المتقاعد يتلقى أدنى راتب في منظومة الرواتب المعمول بها .. فالمبلغ المخصص كراتب للمتقاعد لا يكفي لضمان حياة بعيدة عن الشعور بالحاجة ..أو ضيق ذات اليد أمام ما نشهده من ارتفاع جنوني في السلع والخدمات فالمتقاعد أصبح في عمر معرض فيه لكل الأمراض المزمنة تحتاج إلى رعاية دائمة وأدوية لا غنى عنها ، كيف يمكن للمتقاعد أن يوفق في توزيع راتبه الضئيل على مطالب الحياة وضروراتها خاصة عند التعرض للأزمات الصحية التي تحتاج إل مبالغ طائلة للكشف وشراء الأدوية بعد أن تراجعت المستشفيات وإمكانياتها في العلاج والإيواء .. ألم يحن الوقت لإنصاف المتقاعدين الذين أفنوا زهرة شبابهم في خدمة الوطن؟

* عبدالله مسعود ارحومة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى