رمضان زمان
خال ما مضى من العمر عاصرنا رمضان في كل فصول السنة ..صمنا أيامه بفصل الخريف والشتاء والربيع والصيف ..إنها دورة الزمن وتعاقب الفصول التي تحدد شهر الصيام بأي فصل يكون. كان شهر رمضان زمان لا تختلف فيه طبيعة الحياة اليومية عن بقية أشهر السنة فالناس تستمر في أعمالها رغم إن أغلب الأعمال قي ذلك الزمن تتسم بالمشقة والقسوة خاصة إنها تمارس وسط ظروف بالغة الصعوبة سواء بفصل الشتاء
عندما يكون الطقس باردا أو شديد الحرارة بفصل الصيف . عندما يتوافق قدوم شهر رمضان مع فصل الشتاء حيث ترتفع معدلات البرودة إلى ذروتها خاصة عند هبوب رياح الغربي التي تتسلل برودتها إلى العظام. في هذا الفصل يبدأ موسم جني ثمار الزيتون فتجد الأهالي وهم صيام ينهضون باكرا قاصدين غابة الزيتون التي تبدأ من مشارف القرية متوغلة إلى مسافة بضع كيلو مترات في اتجاه الصحراء، ليشرعوا في جمع
ثمار الزيتون؛ تتسلل إلى أجسادهم برودة الأرض المبلولة ويمأ سمعهم أزيز ريح الغربي التي تنوح عبر أغصان أشجار الزيتون المعمرة منذ مئات السنين والتي توارثها الآباء عن الأجداد منذ قديم الزمان . أما إذا صادف شهر رمضان فصل الصيف وهو موسم حصاد القمح والشعير فتلك معاناة ليس من السهل تحملها إلا الأجيال التي تمرست على تحمل المشاق وتسلحت بالصبر وإيمانها بأن العمل عبادة . حدثني والدي رحمه الله قال : كنا صائمن رجالا ونساء نبدأ الحصاد منذ ساعات الفجر الأولى وكانت الحرارة تشتد كلما مر الوقت لتتوسط الشمس كبد السماء وتصبح قرصا متوهجا بحرارة لا تطاق، فنذهب إلى أخذ قيلولة قصيرة بالخيام انطلاقا من أن الزرع الذي نقوم بحصاده إما بسهل الجفارة أو بمنطقة الضاهر، مما يستدعي الإقامة بقربه رفقة زوجاتنا، وهذه القيلولة نقضيها بالخيمة التي لا تقل الحرارة داخلها عن حرارة الجو بالخارج خاصة عندما تبدأ رياح القبلي تهز أطرافها وهي محملة بالكثير من الغبار. فترة قصيرة ننام ونحن نسبح في بحر من عرق أجسادنا وقد جفت الأفواه وتخشبت الألسن من شدة العطش لنعود بعدها للحصاد لتغادر النساء قبل الغروب بقليل لأعداد وجبة الإفطار التي عادة ما تكون (عيش) أو أرغفة من خبز )الطابونة( نتسامر في الليل قليا تحت ضوء القمر ونحن نحتسي أكواب الشاي ثم سرعان ما يحتوينا نوم عميق نتيجة الإرهاق
وشدة التعب من الصيام والجهد الذي نبذله طيلة النهار في أجواء أقل ما يقال عنها إنها لفحة من الجحيم .لنقوم عند السحور الذي يتكون من (الزميطة) وكوب شاي.. ونشرب الماء قبل الإمساك من (القرب) التي
تضفي على الماء رغم سخونة النهار قليا من البرودة، ويستمر الحال هكذا حتى الانتهاء من الحصاد. ومن ذكريات رمضان التي ما زالت تعيش في خاطري باعتباري من الجيل الذي عاصر جزءا من ذلك الزمن، كان الفصل شتاء الذي يتميز ببرودة طقسه خاصة بالمناطق الجبلية، في ذلك العام سقط المطر منذ بداية الخريف وهو ما يبشر بمواسم خصب قادمة، كان من عادة والدي عند بداية فصل الشتاء أن يستقدم شياه الماعز العشار من الغنم التي ترعى بالصحراء وتبات بالعراء، مما يضمن ولادتها في ظروف مناسبة بتوفير الدفء لها وذلك بالمبيت بغار قديم من أماك جدي، وطبعا من سيتكفل برعايتها .. أنا وأخي الأصغر مني رحمه الله منذ الصباح كنا نسوق القطيع إلى المرعى ونحن نتدثر (بحوالينا) الصغيرة التي نسجتها الوالدة بضياء عينيها من سهرها الطويل عبر الليالي وعلى ضوء مصباح يلقي بضوء شاحب على جدران (الداموس) الذي كنا نسكنه. انحدرنا بالقطيع من السفح إلى سهل الجفارة ،كان الضباب كثيفا والسماء ملبدة بالغيوم ورذاذ خفيف من المطر يبلل وجوهنا، عند منتصف النهار بدأت الشمس تطل لحظات قصيرة من فجوات بن السحب فتلقي بأشعة ذابلة تعطينا القليل من الدفء، الأمر الذي جعلني أقترح على أخي أن أنام أنا ساعة ويتولى هو مراقبة القطيع، لينام هو بعدها ساعة لأواصل أنا الاهتمام بالقطيع ، ولتأكيد ذلك اعطيته ساعتي (هاي دي لوكس) وكانت وقتها ذات شهرة واسعة وتعتبر من المقتنيات الثمينة بمقاييس ذلك الزمن، تدثرت بالحولي جيدا وسرعان ما احتواني النوم، ولا ادري كم مضى من الوقت عندما استيقظت فجأة لأجد أخي متكورا إلى جانبي وقد غرق في نوم عميق أيقظت أخي وأنا في حالة شديدة من الخوف إذ ربما الذئاب الجائعة الآن قد أتت على أغلب شياه القطيع، وعندها سيكون عقاب والدي لا يمكن تصوره وهو المعروف بشدته وانضباطيتة الصارمة فقد كان شرطيا قبل أن يتقاعد اختياريا ويعود بنا من طرابلس إلى الجبل وكان من طبعه أنه لا يقبل عذرا في تقصير ولا مبررا لخطأ . أخذت أجري بمختلف الاتجاهات وأخي يتبعني متعثرا بخوفه وخجله من فعلته، ولكن لا أثر للقطيع، وفجأة تعالى نباح كلب من وراء صف من الصخور الضخمة بمقدمة الجبل ، اسرعنا إلى جهة مصدر الصوت لنجد القطيع آمنا يقضم الأعشاب الطرية بشراهة فيما وقف الكلب على صخرة عالية محدقا في القطيع بنظرات ثاقبة، لم يكن الكلب موجودا بجوار غار القطيع كما تعود أن يفعل دائما عندما خرجنا للمرعى ولكن من المؤكد إنه اقتفى أثرنا حتى لحق بنا إلى السهل ليكون خال نومنا حارسا أمينا وراعيا محترفا ..حينها تنفسنا الصعداء وشرعنا برفقة القطيع نتسلق السفح إلى قمة الجبل ، فيما كانت الشمس تلوح على خط الأفق ملقية بشعاع أرجواني فتتراءى الغيوم مذهبة الحواشي ..ومشعة بلون الفرح الذي يمأ قلوبنا تلك اللحظة .
* عبدالله مسعود ارحومة