في عام 1976 م كنت طالبا في كلية العلوم بطرابلس وقتها وكأغلب أبناء جيلي كنا نعشق قصائد الشاعر السوري الشهير « نزار قباني « ونحفظ بعض الأبيات المهمة من معلقات الشعر العربي الجاهلي ، فقد كانت إحدى طرق جلساتنا مع اصدقائنا هي (مسابقة القافية الشعرية) حيث يقوم أحدنا بإلقاء بيت شعر ويقوم منافسه بالإتيان ببيت شعر يبدأ بالحرف الأخير مما قاله صديقه ، ومن يعجز يكون هو الخاسر ، وقد كنت وقتها قد قرأت ديوانا متوسط الحجم للشاعر الليبي المجدد الأستاذ خالد زغبية والذي كتب عنه الأديب الليبي الراحل الشاعر علي الرقيعي عام 1964 م وتنبأ له بمستقبل إبداعي واعد ، فقال الرقيعى : أعتقد أن خالد زغبية هو أحد طلائع شعرائنا علي درب الكلمة الهادفة ، درب طويل ومتعب وشاق يبتديء بخطوة تزخم بإصرار الإنسان الجاد من أجل أن يكون الأدب سلاحا لقضية الإنسان ، وأشواقه، وأمله في مستقبل مشرق ، وبالفعل فبعد سنوات تحققت رؤية الرقيعي وصار الشاعر خالد زغبية واحدا من مبدعي الوطن وأثرى الحياة الثقافية والشعرية بمنتجه المتنوع والمتعدد فصدرت له عدة دواوين منها : السور الكبير ، وأغنية الميلاد ، وغدا سيقبل الربيع ، وإيقاعات متداخلة ، وتم نشرها مجتمعة فى كتاب أنيق تحت عنوان الأعمال الشعرية الكاملة لخالد زغبية ،وقد أهدى الشاعر المجموعة الشعرية إلى الطليعة الواعية من شعبنا الليبي الصامد ، وجاء فى تقديم المجموعة بقلم المبدع الليبي الناقد والقاص مفتاح الشريف : إن الذي يطلع على هذه المجموعة الشعرية سيحس بأن هناك ثلاثة روافد ، تمد الشاعر بالدفق الشعري ، وتلهمه الكلمات والألحان والمعاني ، وهي روافد دائما تتدفق فى آن واحد لتلتقي بعدئذٍ مكونة نهيرا صغيراً ، يجري ويسيل هادئاً، رقراقا أحيانا ، ومزبدا ثائرا أحيانا أخرى ، هو شعر خالد زغبية .. إن هذه الروافد هي : الحبيبة والمجتمع ، والعالم ، ويلاحظ القارئ في شعره عن الحبيبة كيف تنتابه مشاعر عدة في علاقته معها ، فهو أحيانا يناجيها عن قرب فتستبد به البهجة ويقول الشعر مجنحا طروباً، ويبدأ يغزل أحلامه
، وأمانيه العذبة ، وأحيانا أخرى تجتاحه المخاوف والشكوك ، خشية أن ينهار الأمل الذي بناه ، وينضب الرافد الذي يلهمه ويمنحه معاني الشعر وإحساس الكلمة ، ومعاني الحياة ، وهذه الحساسية التي ينطوي عليها وجدان الشاعر زعبية جعلته يتأثر لتوه ، ويهتز ويرتعش أمام كل مشهد للبؤس في بلاده مهما كان صغيراً وضئيلاً ، فالرصيد الثقافي الذي يمتلكه ، والفكر الإنساني الذي استوعبه في دراساته المضنية دفع به إلى أن ينملي فى ملامح الناس وهم يضطربون في مجتمعه فهو لا يمر مرور الكرام على مشاهد البؤس في محيطه ، بل يعيشه ويغوص فيه وكان الديوان بعنوان « غدا سيقبل الربيع « ، وكنت احفظ القصيدة التي عنون بها الشاعر ديوانه ، وخلال تصفحي لمجلة اليقظة وهي مجلة كويتية شهيرة وقتها وكانت توزع في مكتبات طرابلس ، فوجئت بوجود قصيدة الشاعر خالد زغبية منشورة في صفحات بريد القراء ، وباسم شخص آخر ، فقمت بكتابة موضوع بعنوان « خالد زغبية يتعرض للسرقة ، ونشرته فى صحيفة الطالب وقتها وطالبت المجلة بالاعتذار عن هذا الخطأ وأن على محررها الثقافي أن يتأكد من الحقوق الفكرية لما ينشره ، وبعد قرابة النصف قرن ، وخلال مرضي الحالي وأنا أتلقى العلاج الطبيعي أخبرنى الطبيب المعالج د صالح القديري أنه يتردد على منزل الشاعر خالد زغبية فحكيت له علاقتي بالشاعر الكبير الذي كان له أثر ومساهمة طيبة فى المشهد الثقافي الليبي كما كتب الزميل والكاتب حسين المزداوي فى معرض حديثه عن الحداثة الشعرية في ليبيا قبل وبعد عام 2011 .. فقال المزداوي إن الحدث المفصلي في حياتنا .. حدث فتح خزائن أسراره منذ ذلك العام ولايزال. ينأى الشعر الحديث وخصائصه البنوية به بعيداً عن الادوار المناسباتية والمنبرية والغنائية، وتجعل منه روحاً متجسدة للشعر، ومتخلصة من كل أعبائه التي كابدها على مدار حركته التاريخية. فمنذ ستينيات القرن العشرين وحتى العام 2011 قامت القصيدة الحديثة في ليبيا ببناء عشها الشعري المختلف، وكانت فرصة تاريخية لها في أن تتبوأ مكانتها ال تي حققتها رغم البيئة الطاردة، فا ستمرت قدما رغم النظرة الاست علائية من الأكاديميين الكلاسيكيين الذين تعج بهم تلك المرحلة، أو النظرة القاصرة الحائرة المستريبة م ن السياسيين، يؤازرهم أتباع هذين العنصرين من محبي الشعر في لباسه القديم، ومن المستريبين السي اسيين، ومع ذلك خطت قصيدة النثر بفعل بعض المبدعين كخالد زغبي ة، خطت خطوات واثقة مهمة كانت تستهدف إيقاظ وعي وإحساس ال متلقي من تكلس ونوم اللغة السائد واستعمالاتها المتكررة، انتهى كلا م المزداوى. المهم تحدث الطبيب الذي يعالجني مع أحد أبناء شاعرنا الكبير زغبية فأرسل لي مجموعته الشعرية الكاملة ممهورة بإهداء من شاعرنا الكبير ، وقد أعدت قراءة القصيدة المعنونة ب (غدا سيقبل الربيع) والتي كتبها الشاعر عام 1966 م وتقول كلمات القصيدة : «ما اصعب الفراق ، حبيبتى ما أصعب الفراق بالأمس قد ودعت والدي ، لثمته ، أشبعته قُبل ، صليت فوق صدره الحنون ، فاخضلت العينان بالدموع … وقال لي غدا سيقبل الربيع ، فى أرضنا وتُصلب الآلام ، ونترع الك ؤوس بالأحلام ، حبيبتي ومر عام ، وبرعمت فى ارضنا أزهار ، بستاننا الذي تحوطه الأسوار، ترنمت ع لى غصون دوحه الأطيار ، معلنة صباح يوم باكر معطر الأمل ، فانفجرت منابع الإلهام تسكب فى نفوسنا الإشراق تحرك الأشواق ، إلى غد منعم سعيد « ، وبالمناسبة فقد نشر الش اعر فى مجموعة السور الكبير قصيدة بعنوان رسالة إلى مواطن فل سطيني يدعوه فيها للمقاومة ويدعوه لمقارعة الغاصب المحتل فقال: ياراقدا يا ايها المغبون ، قم حطم الأصنام ، واجعلها عدم . . قم شعشع الأضواء تجتاح الظلم ، قم فاسكب الأنغام فاجعلها حمم ،تأتي على الباغي إذا الباغي ظلم ، وانسف قلاع الليل ، تهوى كالسدم ، لا تبالي الليل فالليل سدم ،قم انحر الآلام لا تشكُ السقم . . قم فابقر الأحزان كيما تبتسم . . وقد نشر تلك القصيدة عام 1962 م ، وهكذا اختلط لدي الحاضر بالماضي بالشعر والسياسة والمرض و العافية بالذكريات التي أعادتنى وأعادت ذاكرتي نصف قرن من الزمن ،وأعترف بأننا قد هرمنا ، وأتذكر كلمات للرئيس الجزائرى المناضل الراحل أحمد بن بلة خلال أحد اللقاءات معه أنه كان يقول : إن أكبر عدو للإنسان هو الزمن ، لذا على الإنسان أن يعرف أنه يتعرض للسرقة من عمره كل يوم، لذا عليه الاهتما م والعمل بجد والاهتمام بتزكية نفسه والحرص على قضاء الوقت فيما هو مفيد وما يعود بالنفع من العمل الصالح فى الدنيا والآخرة ، واذا كانت سرقة الشعر والأعمال الأدبية عمل مذموم ولا يصنع الموهبة ولا يخدم الثقافة ، فإن سرقة المال العام ومقدرات الشعوب عمل شنيع ، ولكن سرقة العمر وضياعه فيما لا يفيد هي الخسارة الكبيرة ، فاللهم نسألك الحفظ والسلامة للجميع .
* د. أبو القاسم عمر صميدة